الطابعات ثلاثية الأبعاد.. مصنع بين يديك
عندما ترغب شركة فورد للسيارات في تجربة قطعة جديدة ستدخل في نظام تغيير السرعة يقوم أحد المهندسين بتصميم نسخة رقمية أولية من تلك القطعة ثم يرسلها إلى جهاز حاسوب، أما ما يحدث بعد ذلك فإنه يكاد يكون سحراً من قصص الخيال العلمي. فداخل جهاز يعادل من حيث الحجم فرن المايكروويف العادي تبدأ نسخة ثلاثية الأبعاد من القطعة المقصودة بالتشكل شيئاً فشيئاً أمام عينيك، حيث يقوم الجهاز بعملية مسح (سكان) للنسخة الرقمية الأولية ثم يبدأ بصهر طبقات رقيقة من غبار البلاستيك لا يزيد سمكها على سمك الورقة، ويبقى يكرر هذه العملية مضيفاً الطبقة فوق الطبقة إلى أن يصل عدد الطبقات إلى الألوف. في الخطوة الأخيرة يقوم بلحام تلك المواد معاً في كتلة واحدة باستخدام الليزر، وفي ظرف ساعات قلائل تخرج من الجهاز القطعة المطلوبة جاهزة تماماً للاختبارات التي ستجرى عليها.أسعار زهيدة
كلفة هذه التكنولوجيا لن تتعدى 1500 دولار تقريباً. بمثل هذه الأسعار بدأت الطابعات ثلاثية الأبعاد، التي كانت ذات يوم ابتكاراً باهظ التكاليف لا يكاد يعرف أحد عنه شيئاً، باكتساب قوّة زخم في مجالات الأعمال وتطبيقات واسعة في ميادين الصناعة المختلفة. شركة فورد على سبيل المثال زوّدت بهذه الطابعات جميع مهندسيها، ووكالة ناسا تستخدمها لاختبار الأجزاء التي ستدخل في معدّات سينتهي بها الأمر إلى الفضاء في آخر المطاف.
عما قريب، كما يقول المحلّلون، سوف تظهر هذه الطابعات أيضاً في مكاتب وبيوت الناس العاديين. فقبل بضع سنوات كان حجم هذه الطابعات يوازي حجم الثلاجات الصناعية الكبيرة وكلفة الواحدة منها تصل إلى مئات الألوف من الدولارات، بينما اليوم يستطيع كل من يريد أن يطلب واحدة عبر الإنترنت ليضعها على منضدة مكتبه.تراجع تكاليف هذه التقنية وتقلص حجمها هما الفتح الحقيقي الذي حققته هذه الأجهزة. يقول كارل هاوي، رئيس قسم بحوث المستهلك في شركة أبحاث التكنولوجيا المسماة "مجموعة يانكي": "نستطيع القول إن هذه هي دمقرطة الصناعة." وهو يتوقّع أن يكون العام الجديد عام الطابعات ثلاثية الأبعاد التي سيسمح لها زهد ثمنها باجتذاب اهتمام أوسع من قبل الصناعات الصغيرة والكلّيات والمستهلكين العاديين.
يقول هاوي: "تلك الأشياء التي كانت تكلّف عشرات أو مئات الألوف من الدولارات لمجرّد صنع قوالب بلاستيكية يمكن الآن الحصول عليها بألف وخمسمائة دولار أو أقل."
عام الطابعات ثلاثية الأبعاد
ما من شك في أن هذا العام سيكون عام الطابعة ثلاثية الأبعاد التي ستظهر بأبهى وأزهى حلّة في "المعرض الدولي للأجهزة الإلكترونية الإستهلاكية"، وهو السوق السنوي لتجارة الأجهزة التي يولع بها الشبّان واليافعون من مهووسي هذه التقنيات. في العام الماضي لم تظهر سوى شركة واحدة تنتج طابعات ثلاثية الأبعاد في هذا المعرض، الذي يقصد منه أن يكون واجهة لعرض المنتجات التي يمكن شراؤها عبر موقعي "بيست باي" و"أمازون" بدلاً عن المحال التجارية. ولكن في شهر كانون الثاني عرضت أربع شركات منتجاتها هناك.
إحدى هذه الشركات، وهي "ميكر بوت" التي تزود شركة فورد بأجهزة من هذا النوع، لديها جهاز جديد قيد العرض من طابعات ثلاثية الأبعاد هو الأعلى تطوّراً وبأسعار ستجعله جذاباً حتى لمن أراده كهواية منزلية.
واليوم يضج عالم القراصنة الإنترنيتيون (الهاكرز) وهواة التكنولوجيا الحديثة المتحمسون بالحديث عن كيف سيمكن استخدام مثل هذه الوسيلة الفعّالة كلّ لغايته. فالباحثون والمستخدمون المبكّرون لهذه التكنولوجيا تمكّنوا من صناعة نطاق واسع من الأشياء، من الأشكال الجميلة التي تمثّل شخصيات معروفة ودمى، أو حلي ومجوهرات مقلّدة، إلى صناعة الدرّاجات. كثير من محافظ جهاز آيفون تصنع الآن وتفصل حسب الرغبة باستخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد.
ولكن ثمة مجالات واحتمالات أخرى مثيرة للجدل فبعد مذبحة مدرسة ساند هوك الابتدائية في أميركا انتشر انتشار النار في الهشيم عبر شبكة الإنترنت فيلم فيديو يزعم أن الطابعة ثلاثية الأبعاد يمكن استخدامها لاستنساخ سلاح ناري يطلق طلقات حقيقية. في هذا الفيلم يبين طالب الحقوق في جامعة تكساس "كودي ولسن" أن ما يطلق عليه تسمية "سلاح ويكي" سوف يكون أول نظام للدفاع الشخصي مصنوعا بالطابعة ثلاثية الأبعاد. ويضيف ولسن، الذي يرأس جماعة لا ربحية: "الشيء الرائع بشأن سلاح ويكي هو أنه يكفيه أن يكون قاتلاً لمرّة واحدة .. عندئذ سنكون أمام حقيقة امتلاك نظام للأسلحة بالإمكان طباعته على المنضدة، لأنه حيثما يوجد جهاز كومبيوتر سيكون هناك سلاح."
يقول "ستيف إسرائيل"، وهو من الحزب الجمهوري: إن صنع أسلحة نارية باستخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد قد يسهّل الحصول على أسلحة بلاستيكية لا يمكن تحرّي وجودها أو اقتفاء أثرها. ففي إيجاز أدلى به في شهر كانون الأول الماضي أمام وسائل الإعلام دعا ستيف إلى تجديد العمل بقانون الأسلحة النارية التي لا يمكن الكشف عنها، وهذا التعبير سيشمل حظر المسدسات والأسلحة البلاستيكية التي تصنع أجزاؤها بالطابعات ثلاثية الأبعاد.
تقنية تهدد بازاحة العمال
قال ستيف: "المسألة مسألة وقت ثم نجد أن هذه الطابعات قد استنسخت سلاحاً كاملاً بجميع أجزائه. ومثل هذا السلاح سيكون قادراً على تخطي خطوط الأمن والمرور عبر أجهزة الكشف عن المعادن لأنه لا يحوي أجزاء معدنية ليكتشف وجودها الجهاز. هكذا سيصبح باستطاعة الأسلحة النارية أن تتسلل إلى الطائرات من دون أن يشعر بها أحد." في آخر المطاف يتوقع للطابعات ثلاثية الأبعاد أن تنجح في صنع أجزاء ومكائن أكثر تعقيداً، أو أن تستخدم في مجال الطب لصنع قطع تعوّض أجزاء في الحوض أو ترميم العمود الفقري. مثل هذه الإستخدامات ستحدث ثورة تتجاوز بكثير مسألة الهوايات المنزلية. يقول "بري بيتس" وهو رئيس المديرين التنفيذيين في شركة ميكر بوت: "في السابق كان يترتب عليك إذا كنت صانع سلاح وتريد الإنتاج أن تصنع ما بين 10 آلاف و100 ألف قطعة، وبالتالي كان عليك التفكير بالأمر بصيغة رأس المال الذي ستتطلبه صناعة ذلك الحجم الذي تريد إنتاجه. أما الآن فالمسألة لا تتطلّب أكثر من ساعات، وبوسعك أن تراجع الفكرة وتعيد العمل عدّة مرّات في اليوم الواحد وتخرج بنتائج عالية الكفاءة."
لقد كانت الأتمتة ذات يوم تهديداً بإزاحة العمال المشتغلين في خطوط التجميع وأخذ مكانهم، ولكن التكنولوجيا الجديدة تضع في حقل مرماها متخصصين في المستويات العليا وأخذ وظائف كان يبدو وكأنها لا تلائم إلا الإنسان وحده وهو القادر على أدائها.
يقول "أندرو مكافي"، وهو عالم أبحاث بارز في مركز الأعمال الرقمية التابع لمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا: "تنامي القدرة الإنتاجية في المجتمع خبر طيب لأنها ستتيح لنا تنوعاً وخيارات أوسع، ولكن الذي يقلقني هو التبعات التي ستحيق بالقوّة العاملة جرّاء هذه التغيّرات المذهلة."
عن صحيفة واشنطن بوست