سألني شخص لطيف وبطريقة لطيفة سؤالاً عن القضية الحُسينية هذا نصه: لماذا الشيعة يبكون الحسين الف وأربعمائة سنة تقريباً!؟
الإجابة بنظري هنا تحتاج إلى أن تختلف عما طُرح كثيراً في إجابة هذا السؤال.. لماذا؟ لأنه ليس بسؤال جدلي فيحتاج إلى أدلة شرعية وأسانيد، بل هو سؤال أستعلام أو أستفسار جاء عن طريق مصادفة بعض الغرابة، و لكي تزيل أي غرابة تحصل لديك لامر ما عليك إلا سؤال محدثها.. من هذا الباب جاء ذلك الشخص فسألني، وهو يستحق جواباً لطيفاً أيضاً كما تقدم.
لا أحتاج أن أذكركم وأذكر نفسي بأن الجواب سيأتي بقدر المعرفة الفقيرة التي لدي.. فعذراً من الأمام الحُسين عليه السلام ومنكم لفقر الإجابة. (١)
أقول : في البدء هل البكاء محرم؟ لا طبعاً.. إذًا نحن متفقون على ما يحصل ليس بمحرم ولكن لا يوجد تفسير عقلي له! ...... إذًا نُكمل.
هل البكاء على الإمام الحُسين عليه السلام لأنه أستشهد؟ لا.. رغم إن شهادته لم تكن طبيعية! كان أمراً مهولاً.. لقد أستنزف الحسين كل ما يملك في تلك المعركة.. عياله وأهله وأصحابه ودمه! وكذلك ما جرى على عيالـه بعد المعركة.. لم يكن هيناً عليه. (٢)
لمـى البكـاء إذن؟
الإمام الحُسين لم يكن شخصاً عاديـا، وذلك يأتي من قربه من رسولنا الكريم (ص) فقد كان أبن بنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وهذا أمر لا يمكن النظر إليه بمستوى غير مختلف أو غير مميز، أنا قرأت عن أمم تُقدس آثار حمار كان نبيهم قد أمتطاه، أو نعل كان يلبسـه، فيجعلون لهذا الأخير مزاراً يستذكرونه به.
الشيعة عاملوا الحسين بما يليق به، فقد كان حبيب نبيهم وحفيده، وكان النبي (ص) هونفسه يبكيه في حياته لانه كان يعلم بما سيجري على الحسين، فقد أخبره جبرائيل بذلك بأمر من الله، هو تعالى أدرى بالمصلحة فيه. فبنوا له مزاراً وأخذوا يزورنه ويبكونه في ذكرى يوم أستشهاده عليه السلام. لدينا في الحديث النبوي والمنقول عن أئمتنا أن النبي كان يوصي بالبكاء على الإمام الحُسين و ذكر إن في ذلك أجرا كبيرا.
ما الغاية من تلك الوصية النبوية؟ إذاً نحن في اول نقطة الآن.. كان البكاء على الإمام الحسين بوصية من النبي (ص)، ولكن ذلك لا يعطي الإجابة المنشودة! نحتاج إلى ثانيـاً.. وثالثاً ربما.
ثانياً- الغاية الأولية لـ البكاء (٣) على الحسين هي تخليده، وتخليد الشيء هو بقاءه بتفاصيله مجملة، لذلك حين نستذكر الحسين نستذكر معه كل الذي حصل له، ومن أهم مايُستذكر هنا هو " لماذا أقدم الحسين على هذا الفعل؟" ولأن الفعل كان من رجل من ذرية نبي،وعاش في بيت نبي، وكان أبواه من الصحابة الأولين للنبي فضلاً عن القرابة الشديدة التي بينهم (٤) لذلك نحن نؤمن بأن فعله كان عين الصواب ولولا ذلك الفعل لتغير مسار الإسلام إلى مسار آخر، أقل ما يقال عنه أنه مسار مظلم لا يمت إلى الإسلام بصلـة، وتفصيل ذلك يطول جداً.. لكن مجرد قراءة التأريخ الصحيح لعهد الخلافة في زمن يزيد يكون الجزء الأكبر من الصورة واضحـا. ولكن! ما هي الغاية النهائية -لو صح التعبير- للبكاء على الحسين؟ هذايتطلب نقطة ثالثة وأخيرة.
ثالثـاً- بعد أن تم تخليد الحسين بذكره وأحياء شعائر الله من خلاله، أحب توضيح الغاية النهائية (كما أسميناها) وذلك من خلال النقاط التالية:
١- في ذكر الحسين ثورة
يحتاج الإنسان إلى التذكير بأمور لعل أهمها يقع في كونه حراً وبالتالي عليه رفض الظلم الذي يقع عليه وبكل المستويات، ولكي لا يتمكن منه الضعف أو التهاون أو التنازل والذي يأتي بطرق متعددة وملونة يصعب تمييزها، كان لابد من وجود قضية محفزة ومشجعة، وماأجمل وأروع أن تأتي تلك القضية من شخص بمستوى الحُسين بن فاطمة بنت محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. فكان الحسين آيقونة الحرية العالمية، حتى وصل الأمرإلى رجل من الهندوس أتخذ من تلك القصة طريقاً يسير به ليحول سيل من الدماء في بلده إلى سيل من السلام والمحبة! فأنتصر.. كما قال " تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر".
كانت كلمات الحسين مدوية في عهد الظلم الذي كان في زمنه فبقيت صرخة كل مظلوم ثائر. جملة ( هيهات منا الذلة) هدمت إمبراطوريات وأسقطت عروش، والتأريخ يعج بالأمثلة، ولو آمن بقية العرب كما آمن الشيعة بقضية الإمام الحسين وأهدافها لما أحتاجت فلسطين إلى أن تنادي عقود من الزمن بلا مجيب! للأسف. (٥)
إشكال: وقعت الكثير من الثورات.. ومن الانتفاضات الرافضة للظلم والاستبداد، لم تُبنى على ذكر الحسين وقصتـه! فضلا عن أنه لم يكن جزء منها أصلا! وبالتالي فهي قضية محصورة بطائفة معينة من الناس ولم يقع تأثيرها إلا عليهم.
أقول : نحن لم نقل بأن جميع الثورات حدثت باسم الحسين! ولكن قلنا أنه تذكير الهي بمستوى رائع للإنسان بضرورة الدفاع عن حريته وكبرياءه، حتى صار لا يدور حديث عن الأحرار إلا وذكر الحسين يتصدر القائمة. كما أضيف هنا شيء مهم.. لم يقدم أي قائد ثائر من اجل الحرية ما قدمه الحسين. لذلك كان مستحقاً لـ لقب أبا الأحرار وبجداره.
٢- في ذكر الحسين وحدة
لو كنت في العراق عزيزي القارئ وقد حضرت الزيارة الأربعينية وذلك الجنون الذي يحصل هناك.. ستدرك إن ذلك ليس جنوناً، بل هو دعوة للوحدة والاتحاد بأسم الحرية، أنا رأيت لأكثر من مرة شخصيات من ديانات أخرى تزور الحسين في هذه المناسبة وغيرها، حتى دفعني الفضول إلى سؤال أحدهم (لم يكن عربياً حتى) عن سبب زيارته فقال لي نصاً : أنا قرأت كثيراً عن الثورات والنتائج التي أحدثتها وركزت على الامتداد الزمني الذي أستطاعت به فرض ذلك التغيير والحفاظ على نتائجه، لكني لم أصادف كهذه الثورة! وذلك الامتداد الزمني للتأثير! فدعاني ذلك للخوض في شخصية ذلك القائد، فأحببته وتأثرت به وحين عرفت إن له قبر معروف.. أحببت زيارته -أنتهى.
٣- في ذكر الحسين منفعة عامة
ذكر الحسين (من إقامة الشعائر و الاستمرار بذكره والبكاء عليه) هو أمر مرتبط بذكر الله،بمعنى؛ أننا حين نستذكر الحسين أنما نستذكر الله، لأنه قتل لله وقدم ما قدم طاعة لله، ولو كانما جرى على الحسين بدافع مصلحة شخصية (حاشاه) لم يهتم أحد لأمره، ولأنمحى ذكره منذ زمن طويل، فبقاء ذكره ليس بخرافة يتمسك بها الشيعة! بل هي واقعة حدثت بشواهد تأريخية متعددة جداً، ولو لم يكن الله ليريد لها الاستمرار بالبقاء خالدة.. لما بقيت إلى اليوم.
بالإضافة إلى ما تقدم أضيف ؛ ما يجري من عطاء ودعم للطبقات الفقيرة باسم الحسين طالبين بذلك وجه الله تعالى، فهناك المئات من المؤسسات والهيئات ذات الدعم الذاتي للمحتاجين (بقدر المستطاع) هو أمر نبيل وإنساني.. لذلك كانت ثورته الحسين نصرة للإنسانية قبل أن تكون نصرة للدين، ولو قرأت عن الحسين وأصحابه ستجد عزيزي القارىء من هم من ديانات أخرى غير الإسلام.
٤- في ذكر الحسين منفعة خاصة
هذا النقطة تختص بالفرد نفسه، ذلك الذي يؤمن بقضية الحسين ويعمل على دعمها.. نحن نعتقد بان لذلك جزاء أخروي عند الله يوم القيامة، وبالتالي هو نوع من النجاة من العذاب الأخروي، فضلاً عن أنه سيجعل الحياة أكثر عزة وأكثر حرية.. وما أجمل أن تعيش مع عبارة الحسين " هيهات منا الذلة ". وأي بناء شخصية سيكون أجمل من شخصية كان أساسها رفض الظلم والوقوف بوجه الظالم وعدم التنازل عن الحقوق والدعوة إلى احترام الذات واحترام الآخر والسعي إلى الإصلاح والتقويم!؟
٥- في ذكر الحسين منفعة أُخرى
قال رسولنا الكريم (ص) في الحسين (الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة) ونحن نتفق (وخاصة أصحاب الديانات والكتب السماوية) على إن أقوال الأنبياء هي حجج لكونها صادرة في ظل نبوة، وهذا معناه أنها صادرة من الله بطريق غير مباشر، فبالتالي يكون الحسين مصباحاً للهدى، بمعنى إن طريقه هو طريق النور، وفي الطريق المنير لا يتيه أحد. كذلك هو سفينة النجاة.. كسفينة نوح، لم تكن مخصصة لسيدنا نوح وعائلته! بل كانت لكل المخلوقات.
هنالك سؤال ربما يرد في الذهن.. لماذا أختار الحسين خيار السيف والدم! ولم يكن قد اختار طريق النقاش والمداولة للوصول إلى حل أفضل مما أقدم عليه!؟
وجواب ذلك واضح فيخطبته حين اقدم على الثورة.. فجاء في جزء منها- هو محل الشاهد- قال : (ألا وأن الدعي ابنالدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة) والسلة هي سل السيف والقتال والذلة واضحة المعنى بدلالتها على الخضوع والتفريط بالكرامة، و لأنه مجبر على أحد الخيارين ولا ثالث لهما.. ولأنه الحسين بن علي.. فقد أختار خيـار القتال.
إشكال محتمل الورود أيضاً: إن الحسين إذاً لم يكن ثائراً على الظلم! وإنما أضطر إلى ذلك كما تقدم، فلم يكن أمامه خيار غير المبايعة ليزيد أو القتال.
أقول : كان ما جاء في خطبته من خيارين واللذان وقع الإشكال معتمداً عليهما، أنما كان ذلك بناء على مقدمات قام بها الحسين أوصلته إلى هذه الدرجة من تطور الأمر و وصوله إلىخيارين فقط، فقد كان مخيراً قبل ذلك بخيارات عدة لعل أولها وأكثر ما ترغبه الدولة الظالمة إنذاك هو الصمت. فالسكوت عند الظلم هو دعم له وتأييد. ولا ترغب الدولة بأكثر من ذلك، خاصة وإن ذلك المؤيد أو الداعم هو شخصية إجتماعية ومؤثرة في المجتمع، فضلاً عن كونه أمام مفترض الطاعة عند الشيعة. ولو سكت الحسين لحظي بكثير من الرضا والعطاء والمناصب من الدولة الأموية.
بقي شيء مهم نقوله: إن ما يحدث من لطم مؤذي للنفس وتمثيل لواقعة الطف بما يحتويه من مدعاة للاستهزاء ومايقوله بعض الخطباء على المنابر مما جرى على الحسين متطرقين إلى ما يستوجب الذلة له ولعياله وأصحابه.. كل هذا وما يشابهه إنما هو من الجهل والتخبط، والحسين عموماً والمذهب خصوصاً غير مسؤولين عليه. نعم هو يحصل من قبل شخصيات معروفة و بتأييد بعض العلماء.. ولكن من يسأل عن شيء عليه طرق باب المثقفين.. لا الجهال ولا السياسيين.. هكذا تُدرك الحقيقة بنظري.
(١) سأكون ممتناً لم يملك أضافة لطيفة و واضحة ليضيفهـا، مع الأخذ بعين الاعتبار إن الذي يسأل من خارج الديانة الإسلامية لكنه من أهل الكتاب.. ويسأل من باب المعرفة وليس للجدل أوالاعتراض.
(٢) كيف علم بما سيجري على عياله من بعده؟ جـ/ كان تقديراً موفقاً منه، فقد كانت افعالهم في المعركة قد دلت على ذلك،فضلاً عن معرفتـه المسبقة بهم.
(٣) البكاء هنا ليس بمعنى النحيب وغيره! رغم وجود ذلك في ذكر الحسين ولكن المراد منه هو أستذكاره وأستذكار ماجرى عليه، وبالتالي أستذكار أهدافه وغاياته الشريفة لثورتـه سلام الله عليه.
(٤) ليست القرابة شرطاً في الاتباع والاطاعة، فقد كان من اشد أعداء النبي ص هو من أعمامه وقومه، أنما كان الذكر للتوضيح.. وهو يتحقق بكونه صفة حميدة ومنقبة لهم عليهم السلام بعد ما تقدم اخلاصهم للنبي ومساعدته في نشر دعوته.
(٥) ربما يقع أشكال هنا ؛ لماذا إذًا لا تقوم الدول الشيعية الان (كالعراق وإيران) بتحرير فلسطين؟ وجوابه يكون عن العراق فقط هنا.. لماذا؟ لأن القضية الفلسطينية قضية عربية ولا دخل لإيران بها (هذا بنظري طبعاً) وإن كانت السياسات الخارجية تُشير إلى غير ذلك.. المهم هنا هو ؛ لا يمكن للعراق وحدة السعي لتحرير فلسطين.. فضلاً عن إن الدولة في العراق فدرالية وليست شيعية فقط! ولا أحد ينكر دور العراق في تلك القضية والسعي المستمر في الحث على تقديم الدورالعربي المشرف.. والتأريخ القريب جداً خير شاهد على ذلك.
كتبه الفقير : جواد الزهيراوي... الأول من محرم الحرام ١٤٤٢ هـ / بغداد.