تفسير ومعنى المحكم والمتشابه في القرآن الكريم
*
عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) :
أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَوَّلِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْقُرْآنِ ؟
فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) :
أَوَّلُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْقُرْآنِ بِمَكَّةَ سُورَةُ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ .
وَأَوَّلُ مَا أَنْزَلَ بِالْمَدِينَةِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ .
ثُمَّ سَأَلُوهُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) عَنْ تَفْسِيرِ الْمُحْكَمِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟
فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : أَمَّا الْمُحْكَمُ الَّذِي لَمْ يَنْسَخْهُ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَ :
﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ﴾ .
وَإِنَّمَا هَلَكَ النَّاسُ فِي الْمُتَشَابِهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقِفُوا عَلَى مَعْنَاهُ وَلَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَتَهُ ، فَوَضَعُوا لَهُ تَأْوِيلَاتٍ مِنْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ بِآرَائِهِمْ ، وَاسْتَغْنَوْا بِذَلِكَ عَنْ مَسْأَلَةِ الْأَوْصِيَاءِ (عَلَيْهِمْ السَّلَامُ) وَنَبَذُوا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ .
وَالْمُحْكَمُ مِمَّا ذَكَرْتُهُ فِي الْأَقْسَامِ مِمَّا تَأْوِيلُهُ فِي تَنْزِيلِهِ مِنْ تَحْلِيلِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ ، وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَنَاكِحِ ، وَمِنْهُ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ ، وَمِمَّا دَلَّهُمْ بِهِ مِمَّا لَا غِنَا بِهِمْ عَنْهُ فِي جَمِيعِ تَصَرُّفَاتِهِمْ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ . وَهَذَا مِنَ الْمُحْكَمِ الَّذِي تَأْوِيلُهُ فِي تَنْزِيلِهِ ، لَا يَحْتَاجُ فِي تَأْوِيلِهِ إِلَى أَكْثَرَ مِنَ التَّنْزِيلِ .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَ : ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ . فَتَأْوِيلُهُ فِي تَنْزِيلِهِ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ...﴾ ، فَهَذَا كُلُّهُ مُحْكَمٌ لَمْ يَنْسَخْهُ شَيْءٌ .
قَدِ اسْتُغْنِيَ بِتَنْزِيلِهِ مِنْ تَأْوِيلِهِ وَكُلُّ مَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى .
المصدر : (البحار : ج90, ص11.)
*
عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) :
أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمُتَشَابِهِ فِي الْقَضَاءِ ؟
فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : هُوَ عَشَرَةُ أَوْجَهٍ مُخْتَلِفَةُ الْمَعْنَى : فَمِنْهُ قَضَاءُ فَرَاغٍ وَقَضَاءُ عَهْدٍ ، وَمِنْهُ قَضَاءُ إِعْلَامٍ وَمِنْهُ قَضَاءُ فِعْلٍ وَمِنْهُ قَضَاءُ إِيجَابٍ ، وَمِنْهُ قَضَاءُ كِتَابٍ وَمِنْهُ قَضَاءُ إِتْمَامٍ ، وَمِنْهُ قَضَاءُ حُكْمٍ وَفَصْلٍ ، وَمِنْهُ قَضَاءُ خَلْقٍ وَمِنْهُ قَضَاءُ نُزُولِ الْمَوْتِ .
أَمَّا تَفْسِيرُ قَضَاءِ الْفَرَاغِ مِنَ الشَّيْءِ ، فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ﴿وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ﴾ ، مَعْنَى فَلَمَّا قُضِيَ أَيْ فَلَمَّا فَرَغَ . وَكَقَوْلِهِ ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ .
أَمَّا قَضَاءُ الْعَهْدِ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى : ﴿وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ ، أَيْ عَهْدٌ . وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ :
﴿وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ﴾ ، أَيْ عَهِدْنَا إِلَيْهِ .
أَمَّا قَضَاءُ الْإِعْلَامِ ، فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ﴿وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ﴾ . وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : ﴿وَقَضَيْنا إِلَى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ﴾ ، أَيْ أَعْلَمْنَاهُمْ فِي التَّوْرَاةِ مَا هُمْ عَامِلُونَ .
أَمَّا قَضَاءُ الْفِعْلِ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ طه : ﴿فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ﴾ ، أَيِ افْعَلْ مَا أَنْتَ فَاعِلٌ . وَمِنْهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ : ﴿لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولًا﴾ ، أَيْ يَفْعَلُ مَا كَانَ فِي عِلْمِهِ السَّابِقِ ، وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ .
أَمَّا قَضَاءُ الْإِيجَابِ لِلْعَذَابِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ : ﴿وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ ، أَيْ لَمَّا وَجَبَ الْعَذَابُ . وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ يُوسُفَ : ﴿قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ﴾ ، مَعْنَاهُ أَيْ وَجَبَ الْأَمْرُ الَّذِي عَنْهُ تَسَاءَلَانِ .
أَمَّا قَضَاءُ الْكِتَابِ وَالْحَتْمِ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مَرْيَمَ : ﴿وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيًّا﴾ ، أَيْ مَعْلُوماً .
وَأَمَّا قَضَاءُ الْإِتْمَامِ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ : ﴿فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ﴾ ، أَيْ فَلَمَّا أَتَمَّ شَرْطَهُ الَّذِي شَارَطَهُ عَلَيْهِ . وَكَقَوْلِ مُوسَى (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : ﴿أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَ﴾ ، مَعْنَاهُ إِذَا أَتْمَمْتُ .
وَأَمَّا قَضَاءُ الْحُكْمِ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى : ﴿قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ ، أَيْ حُكِمَ بَيْنَهُمْ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ﴿وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ . وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : ﴿وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ : ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ .
وَأَمَّا قَضَاءُ الْخَلْقِ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : ﴿فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾ ، أَيْ خَلَقَهُنَّ .
وَأَمَّا قَضَاءُ إِنْزَالِ الْمَوْتِ ، فَكَقَوْلِ أَهْلِ النَّارِ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ : ﴿وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ﴾ ، أَيْ لَيَنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَوْتَ . وَمِثْلُهُ : ﴿لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا﴾ ، أَيْ لَا يَنْزِلُ عَلَيْهِمُ الْمَوْتُ فَيَسْتَرِيحُوا . وَمِثْلُهُ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ : ﴿فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ﴾ ، يَعْنِي تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ .
المصدر : (البحار : ج90, ص18.)
*
عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) :
أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمُتَشَابِهِ فِي تَفْسِيرِ الْفِتْنَةِ ؟
فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) :
﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ .
وَقَوْلُهُ لِمُوسَى (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : ﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً﴾ .
وَمِنْهُ فِتْنَةُ الْكُفْرِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ﴿لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ ، يَعْنِي هَاهُنَا الْكُفْرَ . وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي الَّذِينَ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا﴾ ، يَعْنِي ائْذَنْ لِي وَلَا تُكْفِرْنِي . فَقَالَ عَزَّ وَجَلَ : ﴿أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ﴾ .
وَمِنْهُ فِتْنَةُ الْعَذَابِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ ، أَيْ يُعَذَّبُونَ . ﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ ، أَيْ ذُوقُوا عَذَابَكُمْ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾ ، أَيْ عَذَّبُوا الْمُؤْمِنِينَ .
وَمِنْهُ فِتْنَةُ الْمَحَبَّةِ لِلْمَالِ وَالْوَلَدِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ ، أَيْ إِنَّمَا حُبُّكُمْ لَهَا فِتْنَةٌ لَكُمْ .
وَمِنْهُ فِتْنَةُ الْمَرَضِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : ﴿أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ ، أَيْ يَمْرَضُونَ وَيَعْتَلُّونَ .
المصدر : (البحار : ج90, ص17.)