تؤسس ديما مصطفى سكران الباحثة والقاصة السورية عالمها السردي من خلال "الغوص العميق في التفاصيل الدقيقة لكل شيء ساكن او متحرك في المشهد القصصي"، وهي بذلك تنتمي الى الادب الواقعي الذي يتخذ من الواقع مادة خامّاً لبناء عوالمها القصصية، ولعلنا نلحظ هذه الزاوية جلية واضحة في القصة التي اختارتها العزيزة فيري في مدونتها على هذا الرابط:
لألى مسروقة: fairy touch
تقوم القصة على استثمار تقنية الراوي البطل في صنع الحدث ونموّه، فتكون (دنيا) الشخصية الرئيسة/الراوي، التي تقدم الاحداث وفق رؤيتها وتنمحنا فرصة التعرف على حدود الاحداث وعلاقاتها المضمرة بعضها ببعض، لتكون محور القصة بحدثها الواحد وصوره المتعددة، لتخلق عالماً سردياً يقوم على سيادة المؤنث وتمثل عوالمها النفسية، فتبني شخصية (دنيا) شخصية واعيةً قادرة اعادة انتاج الحدث الى شعور نفسي كصورة معادلة له/للحدث.
تستثمر ديما تقنية الاسترجاع بمداه الطويل والذي اخذ الجزء الاكبر من القصة، كصورة من صور المفارقة الزمنية، وهي تقنية تعود بالحدث النقطة الى نقطة فارقة تحددها الكاتبة، وهي توفر للكاتب امكانية التصرف في زمن القص وانتاج دلالات الاحدث وزيادة التفاعل بين شخصيات القصة واحداثها، اذ تفتح امامه زاوية التعبير وفتح المغاليق التي قد يصل اليها الاحداث، كما توفر للمتلقي امكانية العودة الى بدايات الحدث ومسايرة نموّه، انها تقنية مدهشة تتطلب من الكاتب القبض على السرد وعدم افلاته، اذ تكمن هنا قدرة الكاتب على توظيف هذه التقينات السردية.
تدور القصة حول شعر دنيا المجعد والذي جعلته تندرات القريبات عائقا امامها للظفر بحياة زوجية، فهي ترسم العلاقة بين المرأة والرجل من جهة، ومن جهة اخرى بين المرأة والمرأة، وهنا تقتنص الكاتبة زاوية النسوية كمفهوم يرتكز على النظرة الذكورية للمرأة، لتعيد ترتيبه ليكون بمفهوم آخر وهي نظرة المرأة الذكورية للمرأة، اذ تعالج هذا النسق المضمر من خلال العديد من المواقف المشتركة بين (دنيا) وبين قريباتها في التندر على شعرها المجعد الذي اصبح لازمة لاي موضوع تمكن مناقشته في جلسة عائلية، اذ تبث بين سطور سردها عبارات كاشفة لهذه النظرة من قبيل قول عمتها: (بأنه كان لي جدة بعيدة لأمي ذات شعر مجعد) حتى بلغ بـ (دنيا) ان تصف هذه الارث بـ (اللعينة)، او مثل (تطلق قريباتي النكات اللاذعة عن شعري احياناً)، وان هذه الاحاديث لا تنتظر لحظة مناسبة لطرحها، انما هي تجد موضعها في الحديث اليومي امام الاقارب ام الغرباء، وهو ما يجعل شعرها الجعد شغل العائلة الشاغل.
فيما تستمر القصة بسرد الحدث عبر توظيف تقنية المنولوج الداخلي/الراوي البطل، تبرز النقطة الفارقة فيها في المكواة لتجعلها نقطة التحوّل بين عالمي القصة، واحسبها انها ذروة ما وصل اليه الحدث الدرامي في القصة والذي سيؤسس لحدث اخر على النقيض من حدثها الاول، المكواة التي جاءت كهدية من عم امها، والتي تعكس رؤية (دنيا) في نظرتها للرجل،فمن خلال وصفها بـ (الهدية) وبـ (الرهيبة) و(السحرية) وتمضي لتصف فعلها في شعرها، وهو ما يعكسه قولها: (– المهم ألا تتزوجي رجلاً بشعر مجعد يا دنيا، عليك أن تفكّري في مصلحة ذريتك!)، اذ يخفي هذا الحوار الداخلي مدى المأخذ النفسي الذي نتج عن هذه التندرات او ما يمكننا قوله (نسوية المرأة).
تجعل الكاتبة (المكواة) بإزاء قريباتها، تقدم فيها ثنائية لمّاحة، فمن يمكنه تقديم الحل هو الاقرب، والحل جاء من الرجل لينتهي بعدها بالرجل ايضاً من خلال الجار الشاب الوسيم الذي لم تترك الكاتبة مجالاً امام المتلقي لتوقع النهاية، سيما وانها تركت في ذهنه سؤالاً استهلت به قصتها، مشهداً ناقصاً غايته هو اشراتك المتلقي في رسم الاحداث، وهي منطقة اجادت ديما سكران استثمارها في اشراك المتلقي في تمثل خط سير الحدث ونموّه، لكن (دنيا) تتمسك بالمكواة، بالعلاقة بينها وبين الرجل، حتى ان الامثلة التي ساقتها عن صورة شعرها المجعد كانت ذكورية، (عبد الحليم/احمد زكي) لتخلق جوا من الاطمئنان النفسي بمقابل جو التندر الانثوي، وهي ثنائية اخرى تقدمها سكران في صياغة مشهدها السردي.
تبدأ مرحلة اخرى من الاسترجاع الآني/القريب، وهي تسرد قصة لقائها الثالث والذي كشف نهاية القصة وبما لا يتوقعه المتلقي، اذ اعتمدت على المفارقة في انهاء مشهدها السردي حين تكتشف ان الشاب الوسيم ذا الشعر الاكثر استرسالاً من شعور بنات العائلة مجتمعة، كان قد احبها بسبب شعرها المجعد، وهو ما اعاد لها فرحها المفقود وازال عن قلبها عقدتها النفسية التي زرعتها العائلة بالتندر على شعرها المجعد.
اخيراً، فقد قدمت ديما سكران قصة يومية متداولة بشكل جمالي، تحوّل فيه العائق الى اشارة خضراء، كما قدمته بلغة جمالية فائقة، تكشف عن امكانية في توظيف عناصر السرد والتلاعب بمستوياته الزمنية من اجل خلق وانتاج حدود عوالمها السردية.
(حيدر هلال التميمي)
.................................................. ........................
هامش: اقف عرفاناً للعزيز فيري على انتقاء هذه الدرر الجمالية وبثها لنا ... هنا .. كذائقة عابقة بالنور.
هامش: ما اجمل ان تكون هذه القراءة ميداناً لمناقشة ما ورد فيها، ولعلنا ننتج قراءة اخرى لهذه القراءة.
هامش: عزيزي من يمر هنا .. لست ملزماً بوضع رد طالما انك لم تقرأ القصة وهذه القراءة، فالامر لا يقف عند الرد، بل عند متعة القراءة والفائدة.