عندما وضع جوهر الصقلي (ت: 367هـ) أساس بناء مدينة القاهرة في منتصف شعبان سنة 358هـ= 969م لم يكن في حسبانه أن تصبح يومًا مدينة لعامة مصر، بل على العكس فقد بناها لتكون سكنًا خاصًا للفاطميين تحجب بأسوارها العالية الخليفة وحاشيته عن أنظار عامة المصريين الذين لم يسمح لهم بدخول القاهرة إلا بإذن، وهو ما يؤكده ابن دقماق، والمقريزي، وابن سعيد وغيرهم في كتاباتهم فيذكر ابن دقماق أن الهدف من بناء العاصمة الجديدة هو تأسيس قلعة سكنية منعزلة عن عامة المصريين علي عادة خلفاء الفاطميين في تأسيس مدنهم لكي تضم حريم السلطان وعبيده ورجال حاشيته وحرسه الخاص.
أما المقريزي فيشير إلى أنه بجانب هذا الهدف الطبقي فإن القائد الفاطمي جوهر الصقلي كان يريد أن تكون العاصمة الجديدة القاهرة حصنًا منيعًا يحول دون دخول القرامطة أرض مصر. بينما يؤكد ابن سعيد علي خصوصية القاهرة بالنسبة للفاطميين بأسلوب الرحالة فيقول: "مدينة رائعة تفنن الفاطميون في بنائها وكانت مقراً لخلافتهم ومركزاً للإشعاع العلمي والثقافي"[1].
وما برحت القاهرة كذلك حتى الشدة العظمى في خلافة المستنصر بالله الفاطمي (427-487هـ= 1036-1094م) إذ قدم إلى مصر أمير الجيوش بدر الجمالي في سنة 465هـ=1073م فوجد القاهرة (خاوية على عروشها فأذن للناس من غير الفاطميين في البناء وسكنى المدينة فاتسعت مساحتها وازدهرت مبانيها وظلت القاهرة على هذه الحالة حتى نهاية الدولة الفاطمية.
ولما دخل الناصر صلاح الدين الأيوبي (567 – 589هـ= 1171-1193م) القاهرة أباح سكنى المدينة لعامة المصريين، وكان واضحًا أن جهاده ضد الصليبين قد استولى على عقله وقلبه وسائر جوانحه مما جعله يهتم بالعمائر والتحصينات الحربية في القاهرة وغيرها من المدن الكبرى فضلًا عن رؤية صلاح الدين للعمائر التي بناها الفاطميون الشيعية التي دفعته إلى (الحط) من قصور الدولة الفاطمية وإزالة بعضها وفى هذا يقول المقريزي:" وحط من مقدار قصور الخلافة، وأسكن في بعضها، وتهدّم البعض، وأزيلت معالمه، وتغيرت معاهده"[2]. ويذكر لنا صاحب الخطط التوفيقية أن القاهرة الفاطمية كانت تشغل عند نشأتها الأولى في سنة 358هـ= 969م مساحة ثلاثمائة وأربعين فدانًا، بلغت في نهاية عصر سلاطين المماليك ما يزيد عن ألف وسبعمائة فدان[3].
ويتفق الباحثون على أن الخطط التي ذكرها المقريزي عن القاهرة لم يطرأ عليها تغييرات مساحية حتى أوائل القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي إذ تعرضت القاهرة بعد خراب الفسطاط وانتقال العامة للسكنى بها وحولها إلى تغييرات معمارية عميقة بلغت أقصاها في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي بسبب تنافس السلاطين والأمراء المماليك في التفاخر والمباهاة بالثراء والعطاء، ورغبتهم في تخليد ذكراهم بين الناس أو التكفير عن ذنوبهم في الدنيا حتى صارت القاهرة تزدان بالقصور والمساجد، والمدارس، والأسبلة، والخوانق وغيرها من المنشآت التي كانت تبنى بالطوب (الآجر) في غالب الأحيان بينما كانت الجوامع والمدارس والمباني تبنى بالحجر المنحوت وتفرش أرضها بالرخام وكذلك الجدران.
ويصف أحد المؤرخين المعاصرين النشاط العمراني في القاهرة عصر سلاطين المماليك منوها بدور عامة المصريين في أعمال البناء والتشييد بقوله: " ولأهلها القوّة العظيمة في تعلية بعض المساكن على بعض حتّى إن الدار تكون من طبقتين إلى أربع طبقات بعضها على بعض"[4].
ومن المعروف لدى جمهور الباحثين أن العسكر المماليك قد انتقلوا إلى قلعة الجبل بعد أن أصدر السلطان عز الدين أيبك في سنة 654هـ= 1256م، مرسومًا يقضى بإخلاء قلعة جزيرة الروضة التي أنشأها الصالح أيوب لمماليكه وانتقالهم إلى مقر الحكم، ولم يترك أحدًا بها حيث تحولت إلى قصور وبساتين ومنتزهات، ودور، وجوامع، وحمامات، ودار المقياس.
ونتيجة للاتصال العمراني بين القلعة – مدينة العسكر – والقاهرة – مدينة العامة – صارت عمائر مصر بلدًا واحدًا وتحولت العاصمة من الطابع العسكري الجاف إلى النشاط الاقتصادي والاجتماعي المزدهر إذ قامت الأسواق الكبرى على طول شارع (بين القصرين) وامتدت إلى شوارع القاهرة المجاورة وتسابق العامة في أعمال العمارة السكنية والتجارية في تلك المناطق (حتى عزت أرض البناء).
ومن الطبيعي أن تتواكب الزيادة السكانية مع هذه الزيادة المطردة في الأبنية والمنشآت السكنية والتجارية والاجتماعية حتى بلغ عدد سكان القاهرة في النصف الأول من القرن الثامن الهجري حوالي ستمائة ألف نسمة، مما جعلها تتفوق في مساحتها وكثرة سكانها على كثير من مدن أوربا والعالم الإسلامي إلى أن بلغت في نهاية النصف الأول من هذا القرن حوالي ثلاثة ملايين نسمة على قول أحد الباحثين الأجانب.
ويشير أحد المعاصرين إلى شدة الكثافة السكانية في القاهرة في عصر المماليك البحرية بقوله: ليس في الدنيا من شرقها إلى غربها مدينة أعمر بكثرة الخلق منها، ولا يكاد ينقطع الزحام بشوارعها العظيمة، في كل شارع وخط ومحله منها بيوت ودروب وأسواق وجوامع ومدارس تصلح أن تفرد بمدينة واحدة بل في كل ربع من ربوعها ما يعمر بهم قرية.
ويفسر أحد الباحثين ظاهرة النمو السكاني في العصر المملوكي الأول في ضوء فترة السلام التي عاشتها العاصمة لأكثر من مائة عام بمنعزل عن المذابح الجماعية التي أفرزتها الهجرات التتارية الشرسة على الأراضي العربية وكذلك الهجرات السكانية العديدة إلى مصر من العراق والشام والتي شملت مختلف الجنسيات من المغول والأكراد والتركمان مما كان يمثل زيادة طارئة في أعداد السكان أضف إلى هذا بقايا جيش الخلافة العباسية وبعض المحاربين الأكراد الذين تجاوز عددهم بضعة آلاف نسمة.
ويمكن التعرف على حجم الزيادة السكانية وكثرة العمارة من خلال مشاهدات بعض الرحالة الذين زاروا القاهرة في القرن الثامن ومطلع القرن التاسع الهجري/ القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر ميلاديًا، فيصفها ابن بطوطة (ت: 779ه) بقوله: هي أم البلاد المتباهية بالحسن والنضارة، مجمع الوارد والصادر، ومحط رحل الضعيف والقادر، وبها ما شئت من عالم وجاهل وجادّ وهازل، وحليم وسفيه، ووضيع ونبيه، وشريف ومشروف، ومنكر ومعروف، تموج موج البحر بسكانها، وتكاد تضيق بهم، على سعة مكانها وإمكانها[5].
ويرى الرحالة الأوربيون الذين زاروا مصر في القرن الخامس عشر الميلادي الكثافة السكنية في القاهرة في ضوء حركة التجارة وازدحام الأسواق، وكميات البضائع والسلع التي تكتظ بها المراكب والسفن والمتاجر والحوانيت وفى هذا يقول أحدهم: "وليس في القدرة تعداد جميع السلع التي تؤتى بها إلى هنا من الهند ثم توزع في مختلف أنحاء العالم".
هذا فضلًا عن رؤيتهم للمباني والمنشآت السكنية والتجارية والشوارع والدروب والطرقات المزدحمة لكثرتها بالسكان، وشتى أنماط السلع والمنتجات، بالإضافة إلى ظاهرة انتشار الباعة الجائلين في كل مكان وأصحاب الطبليات والدكك المستديمة وجلوس بعضهم بها على أبواب الجوامع مما يضيق الطريق على الناس، ناهيك عن تلك الأعداد الغفيرة من المتسولين وأهل الحاجة والمسكنة الذين امتلأت بهم شوارع القاهرة آناء الليل وأطراف النهار معبرين عن حجم التمايز الطبقي والظلم الاجتماعي الذى عانى منه المصريون خلال العصر، وأن الرخاء الاقتصادي ووفرة العوائد المالية كانت تتحرك في معظمها إلى أعلى حيث يوجد السلطان والأمراء والعسكر وأتباعهم من العلماء والأعيان.
وثمة ظاهرة جيولوجية أشار إليها المقريزي أدت إلى تحول مساحات جديدة من الأراضي– شرق النيل إلى عمائر سكنية لمختلف شرائح العامة من التجار والحرفيين والصناع والباعة والسوقة وغيره من عامة القاهرة الذين استقروا في تلك الأراضي لم تكن تتحمل سوى المباني الخفيفة التي تتميز بقلة ارتفاع طوابقها ورخص تكاليف مواد البناء، وإيجارها الزهيد كي تتناسب مع ذوي الدخل المحدود من العامة الذين يرغبون في السكنى على أطراف مدينة القاهرة.
ويرى الباحثون أن الامتداد السكاني في القاهرة كان يمتد بصفة رئيسة نحو الشمال بسبب انبساط الأراضي واتساعها في آن واحد إذ أن المدينة كانت محدودة من جهة الشرق بتلال المقطم، ومن جهة الغرب بنهر النيل، أما الجنوب فلم يزد عن شريط ضيق ينحسر بين التلال ومجرى النهر مما يجعل التوسع العمراني ناحية الشمال أمر طبيعياً ومرغوبًا.
كذلك فإن عددًا من عامة القاهرة سكنوا في رحاب قصور السلاطين والأمراء ومنازل الأثرياء من خلال الأعمال التي يقومون بها وبحكم تواجدهم بجوار مخدوميهم من ذوي الجاه والسلطان بالإضافة إلى سكان الخوانق والجوامع الذين اكتظت بهم هذه الأماكن الخاصة بالعبادة والاعتكاف حتى أن إحدى الخوانق بلغ عدد سكانها سبعمائة نسمة وهي خانقاه سعيد السعداء والتي كانت من البيوت الفاطمية التي أمر صلاح الدين الأيوبي عند دخوله القاهرة بتحويلها إلى بيت للصوفية وعرفت لذلك باسم (الصلاحية) نسبة إليه.
وتشير المصادر إلى أن الدولة المملوكية كانت من حين إلى آخر تعيد النظر في إقامة بعض سكاني الخوانق الذين تظهر عليهم علامات الثراء المفاجئ لكي يحل محلهم عدد آخر من شيوخ الصوفية مما يكشف عن حجم الكثافة السكانية بمدينة القاهرة بالنسبة لعدد المساكن المتوفرة آنذاك.
ولقد توسع عامة القاهرة في السكنى والعمارة في المساحة الواقعة بين الفسطاط- والقاهرة – العاصمة الجديدة – حتى اتصلت العمائر وامتدت إلى باب الفتوح وباب النصر حتى الريدانية – كما بنى العامة العمائر خارج باب القنطرة إلى منشأة المهراني وخارج باب البرقية والباب (المحروق) إلى سفح الجبل بطول السور الحجري المحيط بالمدينة (حتى صار العامر بالسكنى على قسمين: أحدهما يقال له القاهرة والآخر يقال له مصر).
وجدير بالذكر أن أبواب القاهرة التي أوردناها هنا لم تكن في مواضعها التي هي عليه في مصر سلاطين المماليك عندما وضعها القائد جوهر الصقلي في بداية العصر الفاطمي وهو ما أشار إليه أحد الباحثين الأثريين تفصيلاً في معرض ذكره لحضارة مصر الإسلامية، مما يبين لنا مدى التطور الحادث في عمارة القاهرة سواء من حيث التجديد أو من حيث التعديل والإضافة والذي ظل مستمرًا حتى نهاية العصر المملوكي.
والواقع أن أحوال عامة القاهرة تميزت بنوع من الاستقرار النسبي في ظل السياسة الداخلية لسلاطين المماليك البحرية في الفترة الواقعة بين منتصف القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي ومنتصف القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي إذ أن السلاطين والأمراء اهتموا – إلى حد ما – بحل بعض المشكلات الاقتصادية والاجتماعية لأهل القاهرة خاصة التجار الذين امتازوا بقدر من الثراء الملحوظ بينته حركة الحياة اليومية في الأسواق والوكالات، والفنادق والخانات.
بيد أن هذا الاستقرار ما لبث أن تلاشى تدريجيًا مع بداية عصر المماليك الجراكسة بسبب ( سوء إيالة الحكام وعبث الولاة) حتى أن السلاطين فقدوا مزية السيطرة على الجند الذين وهنت فيها روح الفروسية وقويت فيهم شهوة النهب والسلب والاعتداء على العامة من الباعة والسوقة في وضح النهار نتيجة سوء الأحوال الاقتصادية وقلة (التجاريد) بل إن مظاهر الهوج والفوضى بين الجند التي بلغت حد الثورة ضد السلطان لعدم قدرته على دفع رواتبهم – قد دفعت أهل الدولة إلى الترخيص لهم بالنزول من الطباق في القلعة ، والسكنى مع العامة والتزوج من نسائهم، والتنازل لهم عن إقطاعياتهم مقابل مبالغ مالية يدفعها العامة للجند ( ……. وخربت منهم أراضي إقطاعياتهم).
كما أن التوجيه الخاطئ من جانب الدولة لأنماط الإنتاج وخاصة النشاط الصناعي والتجاري في مدينة القاهرة بحثًا عن مصادر الكسب السريع لتلبية حوائج النظام الحاكم من الأموال قد أضر أبلغ الضرر بأرباب الأعمال والتجارة الذين تحولوا إلى عملاء لدى السلطان الذي احتكر كافة مصادر الثروة لنفسه مما ترتب عليه تدهور مستوى الإنتاج وانخفاض عوائد التجارة فاستغل الأوربيون هذه الفرصة للقضاء على البقية الباقية من التجارة المصرية فأغرقوا الأسواق المحلية بالبضائع والسلع الأجنبية بأسعار منافسة للإنتاج المصري مما أضر باقتصاديات البلاد أيما ضرر.
وكان اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي إيذانا بثورة كبرى في التجارة العالمية، وإعلانًا صريحًا بضياع دور مصر في ريادة طرق التجارة الدولية بين الشرق والغرب في تلك الفترة الحاسمة من تاريخ العالم أواخر العصور الوسطى.
وعند قدوم العثمانيين إلى مصر كان الوضع الاقتصادي متدهورًا، وكان بيت المال المصري خاويًا (لم يبق فيه درهم ولا دينار) مما دفع العسكر إلى الانصراف عن آخر سلاطين المماليك – طومان باي – وقعودهم عن القتال مما اضطر معه السلطان إلى الاستعانة ببعض فئات العامة من الزعر والصبيان والشطار وأرباب الجرائم ليقاوم بهم الغزاة الجدد من الأتراك.
وعندما دخل السلطان العثماني سليم الأول القاهرة من باب النصر في يوم الخميس 20 ذي الحجة سنة 923هـ (ضج له الناس بالدعاء) لتصبح مصر المملوكية ولاية عثمانية على مدى أربعة قرون تالية من عمر الزمان، لتظل القاهرة محتفظة بسمات النشأة الأولى في زمن الفاطميين وتطورها العمراني في زمن الأيوبيين والمماليك.
دكتور: علاء طه .. دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية.
[1] ابن سعيد: النجوم الزاهرة في حلى القاهرة، تحقيق حسين نصار، القاهرة 1970م، ص21- 22.
[2] المقريزي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1418هـ، 2/ 210.
[3] على مبارك: الخطط التوفيقية، طبعة بولاق، القاهرة، 1306هـ، 1/ 81- 82.
[4] القلقشندي: صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، دار الكتب العلمية، بيروت، 3/ 419.
[5] ابن بطوطة: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، أكاديمية المملكة المغربية، 1/ 201.