تسأل سؤالًا كهذا حين تقرأ قول أستاذنا عضيمة رحمه الله "نرى سيبويه يستشهد بالقرآن وببعض القراءات ما تواتر منها وما لم يتواتر. ولو قيس استشهاده بالقرآن باستشهاده بالشعر لوجدنا الشعر قد غلب عليه واستبد بجهده، فشواهده الشعرية كما ذكر أبوجعفر النحاس في شرحه للشواهد (1050)، وهي في النسخة المطبوعة بمصر (1061)، على حين أن استشهاده بالقرآن لم يتجاوز (373)"(1).
ولعل هذا ما جعل بعض الباحثين المحدثين يتهمون النحو العربي بتقديم الشعر على النثر في بنائهم صرح نحوهم، ومن هؤلاء محمد عيد في قوله "إن الصبغة الشعرية في النحو العربي تسري في مسائله عمومًا سريان الدم في العروق، وهي مسئولة عما تعانيه قواعد النحو من اضطراب، ولنا أن نتصفح مثلا (شرح الأشموني) في أحد أبوابه من غير اختيار، وسيتأكد لدينا أن الشعر كان عاملًا مهمًا في توجيه القواعد والآراء والتخريجات الذهنية المجهدة"(2). وبغض الطرف عن اعتماده على كتاب متأخر جاء بعد التقعيد فهو متبع لا مبتدع، وبغض الطرف عن التعميم في مقولته والمبالغة فيها نجد من الباحثين المحدثين من بهرج هذه القضية بدرس لا يعتمد على انطباعات عامة ونظرات عجلى، قال أستاذنا الخثران "ويتضح اهتمام سيبويه بالشواهد القرآنية إذا عرفنا أن المسائل النحوية التي ورد فيها الاستشهاد بالقرآن الكريم تبلغ ما يقرب من (189) مسألة، اعتمد سيبويه فيها على القرآن الكريم وحده في (138) مسألة دون أن يسوق معها شعرًا، على حين أورد الاستشهاد بالآيات القرآنية قبل الشواهد الشعرية في (35) مسألة، واستشهد بالآيات القرآنية تالية للاستشهاد بالشعر في (16) مسألة"(3). ومن هؤلاء أستاذنا محمد عبده فلفل في كتابه (اللغة الشعرية عند النحاة) بيّن فيه أنّ النحويين لم يجتزئوا بالشاهد الشعري عند التقعيد وأنّ قولهم بالضرورة الشعرية دليل على أن ليس كل ما جاء في الشعر يقعد عليه(4). وكذلك نجد أستاذنا محمد بن عمار درين في بحثه (الصبغة الشعرية للنحو العربي بين الحقيقة والادعاء) بين في ختام بحثه أن الشاهد المنظوم موجود بقوة في أغلب المصنفات النحوية؛ ولكنها أقل بكثير من عدد القواعد المصرح بها في تلك المصنفات، وهي قواعد مبنية بلا شك على المسموع من كلام العرب منظومه ومنثوره بما يدفع شبهة طغيان الشاهد الشعري، وأن ترد عيوب النحو إلى اعتماده على الشعر المتميز بخصائص تميزه من النثر(5).
والحق أن غياب الفرق بين التقعيد والاستشهاد هو ما يدعو إلى مثل هذا السؤال الذي يوهم أن النحويين اهتموا بالشعر أكثر من اهتمامهم بالقرآن، ولكن المفرق بين الأمرين يدرك أن القرآن كان عمدتهم في التقعيد، وأنّ أمر التقعيد يختلف عن أمر الاستشهاد، فالتقعيد بيان لما يقاس عليه، وأما الاستشهاد فهو بيان لظهور استعمال قد يقاس عليه وقد لا يقاس عليه، ومن أجل ذلك كثرت الشواهد الشعرية لا لسهولة حفظها ولا لكثرة نصوصها بل لكثرة ما يقع فيها من مخالفات يعاند فيها الشاعر ما جاءت عليه العربية المشتركة المبنية على جمهرة الاستعمال العربي، وهو ما دعا النحويين إلى الاعتذار للشعراء بأن يقال إن هذا خاص بالشعر، وأن يقال إن هذا ضرورة شعرية، أو هو شذوذ في الاستعمال، والذي ننتهي إليه أن ثمة فرقًا بين أن تثبت بالشاهد ورود الاستعمال وأن تحتج به للتقعيد والقياس عليه.