منذ القدم ، استحوذت المراثي على صفحات غير قليلة من سفرأدبنا وارثنا الابداعي والانساني ، حيث يحتفظ شعرنا العربي وأدبنا بتراث ضخم من المراثي التي تفاوتت في أهميتها تبعاَ لصدق التجربة وحرارة التعبير ، وبالرغم من الكم الكبيرمن الرثاء الذي تعددت صوره ونماذجه وتعددت بواعثه ، الاّ ان التاريخ لم يخلّد الاّعددا قليلا منه ذلك هوالمميزبصدقه وحرارة عاطفته ، وأبرزه رثاء جلجامش لصديقه انكيدو الذي يعد من المراثي المكتنزة بالبلاغة وقوة العاطفة وكذلك رثاء الشاعرة " الخنساء" لأخيها " صخر " في جانب كبير من ارثها الشعري .
وقد ضم شعرنا الشعبي العراقي هذا النوع من الكتابة حيث خلّد عدد من المراثي التي انطوت على لوعة حقيقية واحساس مؤلم بفداحة الخسارة والفقدان ، وأبرزذلك ما قالته الشاعرة " فدعة " بحق أخيها المقتول" حسين " التي وصفت سجاياه واخلاقه بأبلغ العبارات المؤثرة :
حسين خوية ( جبل كرحوت) صعاده كلف ولينزل ايموت
يروض الهزل بشحة القوت يبحر التقالب بيك كل حوت
يعقلك جسر ياهو اليجي ايفوت
في مطلع سبعينيات القرن الماضي وتحديدا في شباط 1973 اختطف الموت واحداَ من شباب " الديوانية هو الملازم الطيار " بارع محمد حسين نصرالله" الذي سقط في بحيرة الثرثار اثناء تأديته لبعض التمارين العسكرية ، ولما كان للفقيد من سمعة طيبة ، ولعائلته عمق اجتماعي وعلاقات واسعة فقد شغل هذا الحادث المفجع المدينة بأسرها ، حيث ظلت ساهرة مع اخبار البحث عن جثته لأيام ثلاثة . وبلغت المواساة ذروتها عندما أقام له شعراء المدينة وبمناسبة اربعينيته حفلا تأبينياَ كبيرا ، فاضت به قصائدهم بالمشاعر الحزينة والمواساة الصادقة بالرغم من ان الفقيد لاينتمي لحقل الثقافة انما احب الجميع فيه طيبته وسيرته الحسنة وتواضعه الجم وتواصله الحميم مع اقرانه وابناء مدينته الديوانية ومحلتها الشعبية ( الجديدة ) والتي اشار لها في التقديم صديقه مهدي فرحان عبود بقوله ( منذ نعومة اظفاره تلفظ بالحب السامي للناس فاصبحت علاقته بهم لاتنقطع مهما تغيرت الظروف والاحوال ) ، ولأول مرة في ذلك الحفل يعتلي منصة االشعر الشاعر " صاحب الضويري " ليؤبن صديقه ويقدم نفسه شاعرا تبلورت تجربته لاحقا وأفرزت شاعرية تركت بصمة على خارطة الشعر الشعبي العراقي حيث استهل قصيدته بمقدمة مؤثرة وصف فيها والد الفقيد الاستاذ المربي محمد حسين نصر الله جاء فيها ( لقد رأيت الرجل الكبير بمكان ازدحم فيه المشيعون ورأيته وكأن الطير على رأسه وأظنه أراد أن يقول :
مالها الوادم تعاين
جي دنيتي دكها الحزاين
جي ضيعت حلو المحاسن
تيزاب يمصفي المعادن
ياطير وآنه البيك أراهن
الى الصمت الذي لايسمع ــ أقول متواضعا ) :
يبارع ماخطه السماك بـــارع يلن باب المجارم بيك وسعه
واشوفك لو نكر دف الصواجع نسر والمايوجده يكول جلعـه
.......
عسه لاجدمت يامركب الموت ولاروح النودهم ركبتهاّ
اشبدينه اعله المنايا وسامع الصوت لون بيدي الزلم جافرهدتها
المنايا اعله الركاب امدلـله اتفوت وعز الله يبارع مو وكتهــأ
بعدنه بضي نجومك وانته طالع بدر بين الثرية وبينه شمعه
انطفت واحووه يامجره المدامع وعمت لوما غداها جفاك بدعه
في حين وصف الشاعر" مقداد جاسم " صديقه الفقيد بـ ( الغصن الذي دق جذره الموت بعد ان برز بين اغصان الربيع ) وأهدى الى روحه قصيدته ( حسافه ):
ياعيني ابدمع ماريد تبجين شيهوده الركن صدره تثـلم ّ
مد بيّه الخبر مثل السجاجين ياكلبي شعلامك ماتطك دم
.......
ياريت الخبر مامر على انسان وياريته جزاني وماسمعته
خسف بدر الولايه الجان نيشان هذاك اليترس العين بطلعته
وهذوله احنه عليك اكلوبنه احنان لجن ليش الغريب اتهل دمعته
السبب مالك عدو وماتعرف الشين ولو مريت جن اعذيبي نسـم ّ
عمياوي يبارع جرك البين لو يدري اشجنه انهار وتهدم
أما الشاعر "ابو قيصر الديواني" فقد خاطبه بقصيدته " ياوليدي " :
تظل ذكراك تلجمني ابصباحي المرتعب ومساي
غصه ويه الشرب والزاد لهيب ويسعر ابلهاي
مزهره الدنيا جانت بيك وبفكدك غدت بيداي
لكن حسرة الشاعر "عبدالحسين العوزي" كان مصدرها ان سقوط الفقيد لم يكن في ساحات الجهاد :
ذوله درب للتاريخ يزود المجد معلومات
ولو مات البدن ظل حي تاريخ الشرف ما مات
ردنه ايموت موش ابهاي كون ابحومة الغارات
لاجن بارع استعجل ركض ركضه فراتية
ومن بغداد شارك ايضاالشاعر " ابو ضاري " ( سالم خالص ) في ذلك الحفل التأبيني الشعبي بقصيدة ( نشد ) :
وحشه يوليدي الشواطي وضيعت بيك العرف
اوروحي شهكه مجنحه ابغيمة حزنها تحوم عالشاطي وترف
فاركوها ابلا وداع وشان المفارج يوادع
بيا مجان الكاك يوليدي يبارع ؟
وعاهد الشاعر عبدالهادي قفطان في قصيدة ( المناية ) الفقيد من ان ذكراه خالدة في قلوب أهله ومحبيه :
يبارع صورتك ما فاركتني وبافكار اليحبونك رسمها
باخلاقك الطيبة واددتني المادام بسمه احبابك نجمها
ابغفل اسهام المكدر رمتني الدنية ولاتظن يبره ولمها
كان ذلك التجمع الشعبي هو واحد من سفر الوفاء الديواني الذي جسدته مواقف شعراء المدينة وأبناءها الطيبين .
.
.
م