الحاج صابر رجل عاش في الزمن الأول، بلغ الثمانين من عمره، شاخ جسده، ولم يشخ عقله، فلا تزال حكمته التي يبديها يتناقلها سكان القرية جميعا، وكان من عادته أن يجمع أحفاده على مصطبة من الطوب اللبن ملتصقة بجدار بيته، فيحكي لهم من الماضي البعيد قصصا وعبرة ومواقف ربما يستفيدون منها في قابل الأيام.
وذات ليلة راح القمر يرسل أشعته البهية على القرية البسيطة وكان الأحفاد قد أخذ كل منهم مكانه على المصطبة في انتظار جدهم على موعد جديد من الحكايات والمسامرة وبعد أن دارت عليهم أكواب الشاي… بدأ الجد يحكي لهم قصة رجل يبقى جل وقته في الدار لا يبرحها، ويظل طوال وقته يتثاءب ويتأمل فإذا ألحت عليه زوجته ليخرج ويسعى على رزقه كما يفعل الناس يترك لها المكان، لا ليبحث عن عمل يكفيه وأولاده يسد به رمقهم ويستر به عورتهم، وإنما ليجلس هناك عند شجرة الصفاف على أطراف البلدة يقضي عندها جل وقته .
ومن كثرة ما كان يجلس تحتها يبدو كأنه كان يهدي أو يتحدث إليها حتى ليخيل للقادم من بعد أن الرجل قد خبل عقله أو به مس من الشيطان الرجيم، وهي ذات اليوم حدثته الشجرة حديثا حادا وطلبت إليه أن ينهض لكي يسعى ويكدح حتى لا يضيع من يعول.. عندها شعر بالحرج… حيث صار الكل من حوله يلفظه ويكره بلادته وكسله، وبات ليلة يفكر فيما قالته الشجرة له وبعد صلاة العصر توجه إليها يخبرها أنه ماض يبحث عن عمل وهوفي طريقه سيذهب إلى حكيم يقصده الناس لعله يجد عنده إجابة شافية عن مصدر هذا الكسل والفتور الذي يلاقيه قالت له الشجرة حسنة ولكن لا تنس كذلك أن تسأله عن مشكلتي التي تعرفها ومضى في طريقه لا يلوي على شيء.
ودخل المساء على القرية، وعوت بها الذئاب ونبحت الكلاب، والسكون لف أرجاء المكان… وقدم الذئب الأجرب كعادته يرتاض تحت الشجرة، ودارت بينه وبين الشجرة مساجلات عرف منها قصة الرجل الذي انطلق لتوه إلى الحكيم، فعدا سريعا ليلحق به حتى أدركه على مشارف القرية وطلب إليه أن يسأل الحكيم عن علاج الحكة والجرب التي منعت عنه النوم في ليل أو نهار.
وعلى مقربة من النهر، جلس ريثما يصل القارب إليه، وقطعت صمته سمكة كبيرة كانت تقفز من النهر إلى الشاطئ، ثم لا تلبث أن تنزل فيه لتعاود الخروج في محاولة متواصلة وحركة لا تهدأ. قال: لم تفعلين ذلك ؟ أسمكة أنت أم جان ؟ قالت: بل سمكة لا أهوى البحر ولا البر وهذه علتي من زمن.
وصل القارب ودلف إليه وهو يسير ببطئ إلى أن وصل الشاطئ، حيث الجزيرة التي تغطيها كروم العنب يجلس الرجل الحكيم متلأماً صفحة الماء الرقراق، حياه الرجل وجلس يعرض مشكلات كثيرة في رأسه، وبعد أن طرح الرجل مشكلته قال الحكيم : ان رزقك بين يديك وانت تزهد فيه، خذ ما اتاك وترك ما فاتك واترك الطمع يهدي سرك ولا تؤجل عمل اليوم إلى الغد ، وأجابه الحكيم إجابات شافية كافية وتركه عائدا إلى بلده، والتقى السمكة وهو في طريقه وأخبرها أن تتقيأ ما في بطنها، ففعلت على الفور وإذا بها تخرج من جوفها جوهرة كريمة نفيسة، قالت له السمكة: خذها فانتفع بها جزاء لك، قال لا شأن لي بها إن رزقي ينتظرئي، ثم تركها ومضى عائدا إلى بلده ومر بالشجرة وبشرها أن تحفر ما تحتها وتزيح الصخر والحجر الذي قد يكون السبب الرئيس لحجب الماء أن يصل إلى جذورها قالت على الفور، عليك بالفأس واصنع هذا المعروف الذي لن أنساه لك ما حييت وسيكافئك الله عليه.
وفي مساء اليوم التالي أحضر الفأس وراح يزيح التراب من حولها وبعد عمق بعيد من الأرض إذا بصوت كأنه الذهب الخالص يضربها ضربة متتابعة تظهرزلعة مملوءة عن آخرها بالذهب فكانت هي السبب في عدم وصول الماء الي اصول الشجرة مما تسبب في جفاف اوراقها .. قالت الشجرة وقد اخذت نفساً عميقاً والفرح يطل من اوراقها، ها قد حلت مشكلته فخذ هذا الذهب ولفه بثوبك واندس بين الظلام حتي لا يراك أحد، ولكنه أبى وبشدة وقال إن رزقي قدامي وقبل أن يترك المكان كان الذئب الأجرب قد جاء يركض على لهف وشوق أن يسمع جواب مشكلته فحكى له الرجل ما كان من أمور السمكة والشجرة وقد صدق الحكيم فيما قال قال له الذنب متعجلا: إذن ماذا أخبرك بشأني قال له: إن علاج الجرب الذي بك هو أن تأكل كبدة إنسان لا يشم ولا يمايز أي شخص فقد القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ والضار والنافع…)
ولم يطل تفكيرالذنب وسرعة بدهيته حتی کشر عن أنيابه وأنشب مخالبه في بطنه فأخرج کبده يلتهمها وتركه وانصرف… وخيم الحزن على أرجاء المكان وفي الصباح ارتفعت أصوات أهل القرية بالصياح… ودخل الخوف قلوب الناس، وسکروا دورهم وامتنعوا عن مغادرة البيوت خشية الذئاب التي تعوي والكلاب التي تنيح إنه الأحمق الذي لا يضر نفسه فقط، بل يضركل من حوله، ثم أطرق الحاج صابر لجلسائه قائلاً : ومؤكداً ألم اقل لكم ان الابله عدو نفسه !