على ضفاف شط العرب في البصرة، يقف يوسف محمد على أنقاض مزرعته التي كانت تشبه غابة من النخيل قبل بضع سنوات، لكنها اليوم باتت خاوية على عروشها، إلا بعض ما تبقى من الأشجار التي أصابها الجفاف وخلت من الثمار.
يتمشى يوسف بين بقايا جذوع نخيله، ويحكي عن قصة هذا البستان الذي ورثه عن أجداده، يوم كانت البصرة إحدى أكبر المدن التي تنتج التمر في العالم لكن أسواقها اليوم باتت مليئة بالتمور المستوردة من دول مجاورة وأخرى بعيدة.
يقول إن القصة بدأت أيام الحرب العراقية الايرانية، حين كانت تتعرض هذه البساتين لقصف مدفعي إيراني عنيف أحرق مساحات واسعة منها.
ثم قام الجيش العراقي بتحويل بعضها لمعسكرات وذلك بسبب محاذاتها للحدود الإيرانية، وهكذا أصبحت هذه المرابع الخضراء تفوح منها رائحة الحرائق والبارود.
ولم تستطع الحكومة في السنوات التي تلت الحرب إعادة زراعة ما تم حرقه باستثناء القليل –كما يقول- لكن وتيرة القصف والحرائق توقفت بضع سنوات، فتنفس فيها المزارعون الصعداء، قبل أن تداهمهم مصيبة جديدة، وهي الملوحة التي غمرت مياه شط العرب، حتى ما عادت صالحة لسقي الأشجار.
وبسبب الكميات الكبيرة من مخلفات المصانع ومياه الصرف الصحي التي تلقى بالشط من الجانبين الإيراني والعراقي، تغير لون الماء وطعمه، وعلته طبقة دهنية من آثار النفط المتسرب من البواخر العابرة، فلم يعد صالحا لري هذه البساتين.
ما زالت بساتين النخيل تحيط بعدد من المناطق السكنية بالبصرة ما زالت بساتين النخيل تحيط بعدد من المناطق السكنية بالبصرة (الجزيرة)
تصحر ومشاريع سكنية
ويقف يوسف اليوم حائرا بين أن يحتفظ ببقايا هذا البستان لعل وعسى أن يعيد زراعته يوما ما، أو أن يبيعه لبعض المقاولين والسماسرة الذي أصبحوا يشترون الأراضي الزراعية ليحولوها إلى مناطق سكنية.
ويؤكد أن المبالغ التي يعرضونها مغرية، في الوقت الذي لم يعد بستانه ذا جدوى من الناحية الاقتصادية، لكنه لا يستطيع اتخاذ هذا القرار بسهولة، كما يقول.
وفي البصرة التي كانت تسمى يوما "فينيسا الشرق" أصبحت المشاريع السكنية ورمال الصحراء تتوسع يوما بعد آخر، لتتقلص مساحات بساتين النخيل إلى أدنى مساحاتها منذ سنوات طويلة، دون أن تلوح في الأفق معالم حل لهذه المشكلة.
ويبدي صاحب البستان أسفه على تراجع أعداد النخيل بمدينته، فقد كان أهلها يعتمدون على هذه الزراعة قبل بضعة عقود، بالإضافة إلى صيد السمك حين كانت المياه عذبة لا يشوبها كدر من ملوحة أو تلوث.
ولم يقتصر الأمر على تناقص أعداد النخيل فحسب، وإنما اختفاء أو انقراض أنواع من التمور لم تعد تزرع اليوم، كالقنطار والحويز والديري ضمن 25 نوعا اختفت من المزارع والأسواق.
بل حتى طعم التمر تغير وأصبح جافا وذابلا، ولم يعد بتلك الحلاوة التي عرف بها سابقا، على حد قوله.
حي سكني بني على أنقاض أحد بساتين النخيل المجرفة حي سكني بني على أنقاض أحد بساتين النخيل المجرفة (الجزيرة)
تسمم التربة
ويشتكي كثير من مزارعي النخيل في العراق من تسمم التربة وعدم قدرتها على إنبات الفسائل التي تغرس فيها، رغم أن سعرها يصل إلى ما بين 150-200 ألف دينار عراقي (ما بين 125 و165 دولارا تقريبا).
وتقول وزارة الزراعة إن العراق يخطط لزراعة سبعين ألف نخلة جنوب بغداد في مسعى لإنعاش إنتاجه من محصول التمور، بعدما كان ينتج ثلاثة أرباع تمور العالم، إلا أن إنتاجه الحالي لا يتجاوز 5% فقط.
لكن كثيرين يشككون في جدية هذه الخطوة، ويعتبرونها متأخرة جدا بعدما غزت التمور المستوردة الأسواق العراقية، وتراجعت صناعتها ومشتقاتها بشكل يصعب معالجته خلال السنوات القادمة على الأقل.
يقول عباس الحلو نائب رئيس اتحاد الجمعيات الفلاحية إن العراق كان يصدر التمور في الماضي لمعظم دول العالم بعدما كانت أعداد النخيل تصل إلى 35 مليونا، أما اليوم فإن الأعداد لا تتجاوز العشرة ملايين.
ويضيف للجزيرة نت أن هذه الزراعة تعاني اليوم من تفشي كثير من الأوبئة وخاصة حشرة الدوباس التي عجزت الحكومة عن توفير مبيداتها، أو القضاء عليها عن طريق الطائرات.
هذا فضلا عن أن تراجع مناسيب المياه بالأنهار أسهم في تردي واقع الزراعة بشكل عام والنخيل بشكل خاص، حيث أصبحت المياه شحيحة ومالحة، لا سيما في البصرة وجنوب البلاد حيث تكثر مزارع النخيل.
الزحف العمراني يشكل خطرا على بساتين النخيل الزحف العمراني يشكل خطرا على بساتين النخيل (الجزيرة)
كما أن مهمة تسويق محاصيل التمور باتت تشكل عبئا كبيرا على الفلاحين بعدما سحبت الدولة يدها من الموضوع، مما دفع قطاعات واسعة من الفلاحين لترك بساتينهم والهجرة للمدينة للعمل بمهن ووظائف أخرى، بينما تتسع المساحات الزراعية التي تتحول لقطع سكنية يوما بعد آخر.
ويقترح الحلو على الدولة بناء مخازن ضخمة تكون مهيأة لاستقبال المحاصيل من أجل تسويقها محليا وعالميا، بالإضافة إلى تنشيط معامل صناعة الدبس والحلويات المشتقة من التمر خاصة وأن سمعة التمور العراقية ما زالت جيدة عالميا، رغم كل ما أصاب هذه الزراعة من كوارث في العقود الأخيرة، على حد قوله.
المصدر : الجزيرة