✿ قصة من عالم البرزخ ✿♡ رحلة البقاء 2 ♡
الجزء 31
قلتُ له:
— سيدي، وما حكمة البكاء عليكَ وأنتَ في نعمة ومقام يغبطك به الأولون والآخرون؟
ولماذا يثيب الله من بكى عليكَ، وأنتَ قد حلقتَ إلى ربك في جنته يوم سالت دمائك الطاهرة على أرض الدنيا؟
أجاب سيد شباب أهل الجنة، فقال:
— البكاء دليل علاقة الحبيب مع محبوبه، والفقيد بمفقوده، وكلما زادت رابطة الحب بينهما، زاد البكاء لفقده ومصيبته، ونحن ندعو إلى كل ما يدعم هذه العلاقة التي إن ثبتت ثبت معها السير على طريق المحبوب، والاقتداء بسلوكه.
توقف قليلا، ثم استأنف كلامه، وقال:
— وإنما يُثاب الزائر لي، والباكي على مصيبتي إذا كان عارفا بحقي، مخلصا في عمله هذا لربي. أما بدون ذلك، فمهما أجهد نفسه، واتعب بدنه، وقطع المسافات على قدمه، لا ينفعه ذلك بشيء، ولا تناله شفاعتي يوم الورود على الحق المتعال، وان ذرف بحرا من الدموع.
قام أحد المؤمنين من أصحاب الجنان المجاورة، فسأله قائلا:
— وما معنى أن يكون الزائر لك في الدنيا عارفا بحقك؟ ولماذا جعلتم هذا الشرط لزواركم؟
قال:
— إن أي شخص تزوره ولا تعرف قدره، ومنزلته السامية، وكمالاته العالية، لا يتعلق قلبك به، ولا يكون حبك صادقا له، ونحن أهل بيتٍ لا يعرفنا شخص حق معرفتنا إلا أحبنا واتبع سبيلنا، وسلك طريقنا، كما انه من عرفنا فقد عرف الله، ومن عرف الله أحبه، ومن أحبه أطاعه، وأخلص له، ومن أخلص له نجا من النار، وفاز بجنان العزيز الغفار.
كان الجميع ينصت لكلامه، ويقتبس من أنوار حديثه، وبعد توقف قلیل توجه نحوي، وقال:
— قد شفعتُ لوالدتك، وهي الآن تقضي بقية عقبات الصراط، وسوف تصلك إن شاء الله فيما بعد.
سررتُ كثيرة لهذا الأمر، ونظرتُ إلى أختي هدى فإذا بها تنظر لي أيضا، قد غمرتها الفرحة، ولاحت على وجهها أنوار البهجة والسرور. شكرتُ أمامي على ذلك، ثم قادني طمعي إلى سؤاله الشفاعة لوالدي، فقلتُ له:
— سيدي، ان والدي كان في الدنيا يقيم مجالس العزاء على مصيبتك، ويمشي راجلا إلى مرقدك، ويصرف من أمواله الكثير في خدمة زوارك، فهل له نصيب من شفاعتك؟
أطرق الإمام قليلا، ثم قال:
— ان والدك الآن يحترق في جهنم، وحالته سيئة جدا، يستغيث ولا يُغاث، ويستجير ولا يُجار، ويتوسل بشفاعتي فلا يصل إليها.
— ولماذا يامولاي لا يصل إلى شفاعتك؟
— ان نهضتي أراد الله لها أن تكون مدرسة خالدة لا ترضى بمظاهر الظلم والفساد، أرادها الله أن تضيء دروب الحق، وتنير سُبل الوصول إليه، أما والدك فقد شارك في وضع ستائر الظلمة أمامها، وحجب الأمة أن تستنير بأنوارها.
استغربتُ كثيرا من كلامه، وزادت حيرتي في أمر والدي، فسألتُ مولاي عن توضيح هذا الأمر لي، فقال:
— صحيح كان يقيم مجالس العزاء، ولكن همه الأول والأخير إبكاء الناس، وإضفاء حرارة قصوى على مجلسه وإن كان ذلك بعرض مأسي مفتعلة، وأكاذيب مختلقة، تهين الحسين ونهضته. كان يعلم بكذب القارئ وتزويره لحقائق نهضتي، فلماذا يدعوه؟ ولماذا يصرف الأموال له ويكرمه؟ كان يمشي راجلا أياما طوالا لزيارتي حتى يقول الناس عنه أنه محب للحسين، ولم يجعل الله نصيب في نيته وعمله هذا، والويل لمن يعمل للمملوك، ويترك المالك المطلق.
ندمتُ كثيرا على طلب الشفاعة لوالدي منه، ولم يكن لي جواب أجيب به مولاي، فالحق معه وله. التزمتُ الصمتُ، ولم يتكلم أحد من الحاضرين، فاستأنف كلامه، وقال:
— إذا كانت المدرسة مشوهة بالأكاذيب، فكيف يمكن للأمة أن تنهل منها؟ وإذا كانت محجوبة بظلام التزوير، فكيف تستنير الأجيال بأنوارها؟ إننا أردنا أن تبقى مواقف واقعة عاشوراء حية إلى الأبد تنادي: (ألا ترون الحق لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا)(1)، وأردنا من نهضة عاشوراء أن تعلم الأجيال كيف يكون الإخلاص لله، والعشق للقائه في ظروف المأساة، وتكالب الأعداء، وقتل الأبناء والأحبة.
أردنا أن يبقى جواب زینب لابن زياد خالدا ما بقيت الدنيا، يطرق أسماع أهلها: (ما رأيتُ إلا جميلاً)(2)، يعلمهم كيف تكون المرأة عزيزة أمام الطغاة بطاعة الله، وأن كل مصيبة ومشقة جميلة في الله. أردنا أن تُعرَض مأساة كربلاء كما هي في كل عام أمام الأنظار، كي يقتدوا من خلالها بالمواقف الحقة لأصحابي وأهل بيتي، لا بالقصص المفتعلة علينا في بعض مجالس العزاء، ومن فوق منابرها.
نظر مولاي إلى الحشد العظيم الذي ساده الصمت والسكوت، ثم التفت نحوي وقد بدا عليه أثر تأسف عميق، ثم قال:
— إنني أتأسف كثيرا على والدك وأمثاله من الذين جرتهم حبائل حب الدنيا إلى اصطناع القصص الواهية علينا، أملا في جذب الناس لهم، ورغبة لأن تكون مجالس عزائهم مملوءة بالبكاء والنحيب.
توقف مرة أخرى، ثم قال:
— وأسفي على عامة أهل الدنيا الذين كانوا يحضرون هذه المجالس، ويذرفون الدموع دون تمعن وتدقيق فيما يُقال فيها، وكان الأجدر بهم أن يبكوا على الحسين، لا لأجل السيوف والرماح التي استهدفت جسده، ولكن لأجل الأكاذيب والقصص المهينة التي ألصقت به وبأصحابه(3)...(4)
هل سيلتقي سعيد بوالدته وكيف سيكون اللقاء ومن سيحضر معها.. هذا ما سنرويه لكم غدا..؟
فانتظرونا غدا مع الجزء 32 والاخير ان شاءالله تعالى