تجري القاعدة في اللغة بناء على الاستعمال، وهي لا تهمّ النحو وحده، وإنما هي تتعلّق بالمستويات اللغويّة جميعها، أي النحويّة والصرفيّة والصوتيّة والمعجميّة والدلاليّة أيضا. وقد يكون مستويا الصرف والصوتيات في النحو العربيّ أكثرا ضبطا ودقّة. وهذا الجريان على اللغة أو الاستعمال يرجع في الحقيقة وبالضرورة إلى ضبط القاعدة وصياغتها. وصياغة القاعدة إنجاز كبير في النحو أو اللغة، توخّى أصحابه لبلوغه منهجا وتصوّرا جعلهم يضبطون المفاهيم والمصطلحات أوّلا، ليهتمّوا بعد ذلك بجمع معطيات اللغة ولمّ شتاتها، وتدوين بعض ظواهرها، ثم الالتجاء إلى الملاحظة والوصف، ثمّ التعليل والتفسير، ثمّ مناقشة الأصول والفروع، ومناقشة القواعد وشبه القواعد، والنظر في المطّرد وغير المطّرد.
والقاعدة النحويّة أو اللغويّة التي يصل إليها صاحب الصناعة هي في الحقيقة استقراء لأحكام أو قوانين سمتها الانضباط، مستخلصة من اللغة أو بالأحرى من الاستعمال، مستخلصة من كلام العرب وأشعارهم ومن القرآن الكريم والحديث النبويّ الشريف. هي قواعد تجري على لسان المتكلّم المستمع، دون أن يعيها في الغالب الوعي اللازم، اكتسبها من ضمن اكتسابه للغته. فالمتكلّم يرفع الكلام وينصب، ويقدّم ويؤخّر، ويُظهر ويضمر ويحذف ويقدّر، دون أن يكون عارفا بالنحو الذي أنشأه النحاة، ودون أن تكون له معرفة بالقراءة والكتابة أصلا. وهو يقول شعرا موزونا مقفّى دون سابق معرفة له بالبحور الشعريّة، ولا التفعيلات ولا ما يطرأ عليها من زحافات وعلل. وهو ينظم كلامه وفق معايير اللغة فيأتي بالكلام الفصيح والبليغ، ويبين دون أن يعرف للإعراب ولا للإضمار معنى، ولا للحركات والسكنات ولا للإدغام أو الإعلال أو غيرها. فالعربيّ يتكلّم على سجيّته، وعالم النحو يتتبّع الكلام، ويرصد الظاهرة اللغويّة ويستنبط القاعدة، ويصوغها وفق السياقات التي تطبّق فيها، والشروط الملازمة لها.
واستنباط القاعدة ليس أمرا يسيرا، وهو ليس بحاجة إلى منهج في الوصف والتحليل فحسب، وإنّما هو بحاجة إلى خلفيّة نظريّة أو معرفيّة ليجيء العمل على منوال واحد وفق نظرة كليّة غير قاصرة، ويكون بالتالي نحوا منظّما قائما على أنساق متماسكة، لا يتخللها اضطراب ولا تناقض، وإنما يكون منسجما داخل تصوّرات مفترضة مسبقة. وهذا ما يجعل النحو -أيّ نحو- يختلف من نحويّ إلى آخر، أو من مذهب إلى آخر، وما يجعل النحو أنحاء، وهذه الأنحاء في مجملها تسعى في الحقيقة إلى أن تمثّل النحو الذي يمتلكه الفرد بالفطرة أو السجيّة أفضل تمثيل.
وحقيقة القاعدة أو ضبطها وصياغتها هي أن ينطلق صاحب الصناعة من الاستعمال مثلما أشرنا آنفا، وذلك بالنظر إلى كونه نموذجا أو نماذج حيّة من اللغة، ولهذا لا بدّ للغة المدروسة أن تقوم على مدوّنة تشتمل على عيّنات دالّة ممثّلة، في محاولة لجمع كلّ الظواهر المشابهة في المسألة الواحدة، وما ينتظم منها وما لا ينتظم للخلوص إلى قانون واحد موحّد، من غير أن يكون النحويّ مجبرا على العودة إلى كلّ الظواهر المتعلقة بمسألة ما. وانطلاق النحويّ من الجزئيات مرهون باختبار هذه القاعدة أو تلك على الكليّات. ومن هنا يأتي اختبار القاعدة والتثبّت من صحّتها ومدى سلامتها، وإلا اضطرّ النحويّ أو النحاة لمزيد ضبط القاعدة وحسن صياغتها، وذلك في ضوء تشتّت الظاهرة واختلافها في بعض الحالات، وعدم استجابتها لبعض الشروط بسبب ظهور شروط جديدة في كل مرّة، وبسبب اختلاف السياقات التي ترجع إلى تطبيقاتها.
والرجوع إلى القاعدة في مستوى التطبيق قد يخلق اضطرابا وعدم انضباط، وقد يخلق خروقات واضحة لهذه القاعدة أو تلك، ما يدفع النحاة في الكثير من الأحيان إلى الحديث عن القاعدة الأصل والقاعدة الفرع، والحديث عن القاعدة وشبه القاعدة، والحديث عن الشواذ أو الاستثناءات غير المطّردة، ومن هنا أيضا قد ينشأ خلاف بين النحاة في التأويل والتعليل أو التفسير، وينشأ اختلاف الآراء وتنشأ المذاهب النحويّة أو المدارس، وينشأ الصراع والتعصّب أيضا.
إنّ عدم الوصول إلى القاعدة الأمثل وعدم استجابة الكلام أو اللغة في كثير من الحالات لهذه القاعدة أو تلك، قد يسم القاعدة بالاضطراب ما يجعلها مرفوضة غير مقبولة، وما يجعلها أمرا مشكوكا فيه، قد لا يقود بعضهم إلى التشكيك فيها وفي صحتها بل قد يؤدّي بهم إلى التشكيك في اللغة نفسها.
واضطراب القاعدة في النحو العربيّ وإن أرجعناه في الكثير من الحالات إلى عدم استيعاب وفهم معالجة القاعدة في حدّ ذاتها فهو لا يتعلق باللغة، وإنما هو يتعلق بالقدرة على صياغة القاعدة واستيعاب الظاهرة اللغويّة في حدّ ذاتها، أو لوجود خلل ما في المنهج أو التصوّرات النظريّة. وهذا ولا شكّ يدعونا بجدّ إلى تعميق الدراسة في مسائل اللغة العربيّة في عمومها، ومزيد ضبط وبلورة القواعد النحويّة في مجملها، ولعلّ هذا قد لا يتحقّق إلّا بالتوسّل بمناهج لغويّة حديثة وإضفاء رؤى جديدة، لأنّ البقاء في المنهج القديم على أهميّته قد لا يخلق إلّا اجترارا لا فائدة منه.