ما أكثرَ الأخطاءَ التي تعلو صحائفَ الكراسات والقراطيسِ، وصَفحات المنتدياتِ والمَواقع، وإذا تأمّلتَ وجدْتَ مرجعَ القضيّةِ إلى الجهلِ بالقواعدِ، وقلّةِ المَحْفوظِ في الأذهانِ والصّدورِ من الشّواهدِ.
من ذلِك قولِ بعضِهم: لا تعُدْ يكنْ خيرٌ لَك، برفع كلمة خير النّكرة، زاعماً أنها اسمُ كانَ وأنّ الخبَرَ المنصوبَ محذوفٌ بل تجدُ من يُخطّئُ الصّوابَ فإذا ألْفاها مكتوبةً بالنصبِ خطّأ صاحبَها ، وهذا أدهى من الأوّلِ. وهذه مسألةٌ جَرى بها استعمالُ العربِ في كلامهم الفَصيحِ، وما اختَلَفَ فيها النّحويّونَ والبَلاغيّون منذُ سيبويْه في الكتابِ ومروراً بالمبرّد في المُقتَضبِ وبالزّمخشريّ في المُفصّلِ، فسعد الدّين التّفتازاني في مُختَصَر المَعاني :
قال سيبويْه في الكتاب: [باب من الجزاء ينجزمُ فيه الفعلُ إذا كان جواباً لأمرٍ أو نهي أو استفهام أو تمنِّ أو عرض] : «وأمّا ما انجَزمَ بالنّهي فقولُك: لا تَفْعَلْ يَكُنْ خيراً لك»
وقال أبو العَبّاسِ المبردُ في المُقتضَب، [باب الأفعال التي تنجزم لدخول معنى الجزاء فيها وتلك الأفعال جواب ما كان أمراً أو نهياً أو استخباراً] «وذلك قولك: ائْتِ زيداً يكرمْك، ولا تأت زيداً يكن خيراً لك، وأين بيتك أزرْك؟» . و قالَ جار الله الزمخشريُّ في المُفصّل: [الفصل الثالث: في جزم المضارع] « الجَزمُ بحروف الجزم وأسمائه، تعملُ فيه حروفٌ وأسماءٌ، نحو قولك: لَمْ يخرجْ، ولمّا يَحضرْ، ولْيضربْ، ولا تَفعلْ، وإنْ تُكرمْني أكرمْكَ، وما تَصنعْ أصْنَعْ بكَ، وأيّاً تَضربْ أضربْ، وبمنْ تَمررْ أمرَّ به»
والشّاهدُ على جزمِ مضارع كانَ ، وُقوعُها بعد أمر أو نهي أو ما شابهَهُما، ووجهُ الجزمِ في المٌضارعِ، تقديرُ أداةِ شرطٍ جازمةٍ؛ فالفعلُ يُجزَمُ بإن مُضمرةً إذا وقعَ جَواباً لأمرٍ أو نهيٍ أو استفهامٍ أو تَمنٍّ أو عَرضٍ، نحو قولك: أكرمْني أكرمْك، ولا تفعلْ يكُنْ خيراً لك، و ألا تَأتِني أحدثْكَ، وأين بيتُك أزرْكَ، وألا ماءَ أشربْه، وليْتَه عندَنا يُحدِّثْنا، وألا تَنزلْ تُصِبْ خيراً.
فإضمارُ العاملِ الجازمِ جائزٌ في هذه المواضعِ، وجوازُ إضماره لدلالة هذه المَعاني عليه فلذلك انجزم الجواب، ففي قولِنا: «لا تفعلْ يكنْ خيراً لكَ» نهيٌ؛ والتأويل لا تفعلْ فإِنَّكَ إنْ لا تَفعلْ يكنْ عدمُ الفعلِ خيراً ، ولا تظنُنْ بنا سوءاً يكنْ خيراً لَك، والتقديرُ: لا تظنُنْ بنا سوءاً، فإنْ لا تظْنُنْ يكنْ تركُ الظّنِّ خيراً لَكَ وأقْوَمَ سبيلاً ؛ ففي حَديثِ أبي الدّرداءِ رضي الله عنه: «ما أَنكرتُمْ مِن زَمانِكُم فيما غَيَّرتُمْ من أَعْمالكُم؛ إِن يَكُنْ خَيراً فَواهاً واهاً، وإِنْ يَكنْ شَرّاً فآهاً آهاً» [الطبرانى، وابن عساكر عن أبى الدرداء قال ابن عساكر : حديث غريب. انظُرْ: جامع الأحاديث للسيوطي، رقم النص: 19876]. والتقديرُ إنْ يكنْ ما آلَ إليه زَمانُكُم خيراً فَواهاً واهاً...
بل قد جاءَ حذفُ فعلِ الجوابِ المجزومِ وبَقاءُ مَعْمولِه دالاًّ عليْه، نحو قولِ الله عزّ وجلّ: «ولا تَقولوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ» [سورة النساء: جزء من الآيَة:171]، والتّقديرُ: انتهوا، يَكُن الانتهاءُ خيراً لكم. بل جاءَ عن العرب حذفُ أكثرَ من ذلكَ؛ قال الشاعر
محمد تَفْدِ نَفسَك كُلُّ نَفسٍ /// إذا ما خفت من أمر تَبالا
وإنما أراد: لتفد. والسياقُ قرينةٌ على أنّ المحذوفَ لامُ الأمرِ، ذكَرَه البغداديّ في خزانَة الأدب، وهو الشاهدُ الثمانونَ بعدَ الستمائة، وهو من شواهد سيبويه، على أنه جاءَ في ضَرورة الشّعر، وأنّ هذِه اللاّمَ قد يجوز حذفُها في الشّعر، وتعملُ مُضمرةً، كأنهم شبهوها بإن إذا أعملوها مضمرة. فحَذَفَ لامَ الأمرِ في فِعْلِ غَيرِ الفاعِلِ المُخاطَب، والتقديرُ: يا مُحمّدُ لِتَفْدِ نَفسَكَ كلُّ نفس. وقال متمم بن نويرة:
على مِثلِ أصْحابِ البَعوضَةِ فاخْمِشي، /// لَكِ الوَيلُ، حُرَّ الوجْه أو يَبْكِ مَن بَكى
أراد: لِيَبْكِ.