الحمـد لله الـذي خلـق الإنسـان، وعلَّـمه البيـان، ومنَّ علـيه بعقْلِه الْمَخلوقِ، وَرَكزَ في فِطْرَتِه مبادئَ تُمِدُّه بأحكام الأشياء: خيراً وشرّْاً، وحقّْاً وباطلاً، وجمالاً وقبحاً؛ لِتَهْدِيَ تصوُّرَه وسلوكَه .. وأمدَّ هذه الْمَبادِئَ بشواهدِ المعرفة من الأنفس والآفاق؛ فَعَلِمَ العقلُ (الـمُخلِصُ في الطَّلب): الْمُحالَ والْمُتعيِّنَ والْمُمْكنَ، وَعَلِمَ أنه مخلوقٌ يستمدُّ معرفتَه مِن مِنْحَةِ خالِقه – بالقدر الذي منحه إيَّاه ربه – .. وظَّلت معرفتُه (من التمييز إلى أرذلِ العُمُر) تنْمُوْ؛ فتميَّزتْ عنده هُويَّاتُ الأشياء: بِدقَّةِ لَـمَّاحِيَّتِه للعلاقات والْمُفارقاتِ بينها، وسلامةِ تصوُّرِه وصحتها، وحضورِ ذاكرته؛ فأعطى كلَّ هُوَّيةٍ خصوصَها وَحُكْمَها .. وأدرك أنَّ عنده عِلماً بأشياء: علمَ وجودٍ وَحَسْبُ، و عَلِمَ أنَّه لا يملك العلمَ بأشياء يَعْلَمُها غيرُه مِن الْمَخْلُوْقِيْنَ، أو لا يعلمها إلَّا ربُّه سبحانه؛ ليقينه بأنه مخلوق محدود .. ثُمَّ رحم الله الإنسانَ؛ فلم يَكِلْه إلى عقله في هدايته الفطريَّة والاكتسابيَّة بإطلاق؛ بل أنزل الشرع الْمُطهَّر هادياً؛ وجعل العقلَ يملك الحكمَ في توثيقه (بصحة الخطاب عن الله سبحانه وتعالى)، ويملك تحصيلَ مُرادِ الله منه يقيناً أو رجحاناً -؛ وذلك هو تحصيل الدلالة -؛ إذا حرص العقلُ بإخلاصٍ وجِدٍّ على تحصيل الأهليَّةِ التي جعلها ربُّنا قانوناً لِـمَعرفةِ ثبوتِ الخطاب عن الشرع نصّْاً، ومعرفةِ الْمُرادِ دلالةً .. وفي ذلك القانون اشتراطُ الإخلاصِ لله في طلب الحق، واشتراطُ النزاهةِ في التَّحري؛ وذلك بالْبُعدِ عن الهوى وما اشتُقَّ منه من عِنادٍ وحميَّة واتِّباعِ شهوةٍ لا يُقِرُّها العقلُ الفاهمُ عن ربه؛ فكان في ذلك تصحيحُ تَصُّوِرِهِ، وتحديدُ مَجالِ عمله في نطاق معرفته، وتزكيةُ سُلُوْكِه في التأمُّل والطلب والنِّيَّةِ والعملِ، وتوظيفُ الأشياءِ للحقِّ والخير والجمال؛ فقامتْ حجَّةُ الله بهدايةِ البيان في العَقلِ والحواس والْمَشَاعر القلبية، وَأَغْدَقَ لَهُنَّ الْمَعارف في الأنفس والآفاق، وبهدايةِ البيان من الشرع تفصيلاً (وَشَرْعُ الله خَبَرٌ وأمرٌ ونهي) .. وجعل اللهُ البرهانَ على الشرع عِلْماً بصحةِ ثبوتِ الخطاب عن الله نصّْاً، وصحةِ معناه الذي أراده الله بأهْلِيَّاتٍ منها: أَهْلِيَّتَا التوثيقِ لثبوت الخطاب الشرعي، وصحةِ مرادِ الله منه.. وَبَعْدَ البرهانِ على هذين الْمَطْلبين حرَّم الله على العقلِ الخوضَ في عدالةِ الشرع وحِكْمتِه ومعقولِيَّتِه؛ لأنَّ الشك في ذلك عَبَثٌ عقلي ما دامَتْ عنده البراهين العلمية على أنَّ للهِ الكمالَ الْمُطلقَ، وأنه الواحدُ لا شريكَ له، وأنَّه مِن الْمُحالِ أنْ يكون له شريكٌ؛ فكل الكون خَلْقُه وتدبيرُه وملكه وتحت هيمنته .. لا يُسأل سبحانه عَمَّا يفعل لا لِـمُجرَّدِ مطلقِ قدرته؛ بل لقدرته الْمُطلقة، وحكمته الْمُطلقة، وعلمه الْمُحيط .. والعقل الْمَخلوقُ الْمَحدودُ عاجزٌ عن الإحاطة بحكمته سبحانه؛ وفي صميم معرفته أنه لا يعلم أشياءَ كثيرةً إلا ما عَلَّمَه رِبَّه بالشرعِ، أو بضرورة العقلِ مِن مصادِره الحسيَّةِ .. أحمد ربي وأشكره .. لا أحصي ثناء عليه؛ هو كما أثنى على نفسه، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد بن عبدالله الهاشميِّ القرشيِّ صفوةِ الله من خلقه، البشيرِ النذير، والسراجِ الْمُنير؛ فبلَّغ وأكَّدَ ما علَّمه ربُّه مِن أنَّ النجاة والسلامَةَ والسعادة والصلاح والفوزَ بالتمسُّك بهدايتِه الكونية والشرعية، وأنَّ تحقُّقَ كلِّ ذلك لا يكون إلا بالفرار إلى الله دعاءً واستعانةً وتعوُّذاً وبراءةً من الحول إلا به؛ لِتَحْصُلَ هدايةُ التوفيقِ بالعملِ وَفْقَ الْمُرادِ الشرعي (؛ وذلك هو العبوديَّةْ الْمُستحقُّ لها ربُّنا وَحْدَهُ سبحانه وتعالى)؛ لهذا حذَّر من العبودية للهوى وما اشتُقَّ منه؛ لأنه يَجُرُّ إلى خبالٍ في التصور، وفسادٍ في السلوك (كما هو واقع الصوفية، وكافة الباطنية)، وشقاءٍ في الدنيا، وقلقٍ، واستبطانِ الشرِّ لعباد الله، وهلاكٍ وخسران في الآخرة.. ونصب ربُّنا سبحانه وتعالى البراهينَ على هداية التوفيقِ بالتَّأسِّي بالسيرةِ العملية للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وبتحمُّلِ أهليةِ توثيق ثبوت الخطاب عن الله، وثبوتِ مراده منه، وبالفرار إلى الله الذي أسلفتُ بيانه .. وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانِ إلى يوم الدين بإحْسانك ورحمتك يا أرحم الراحمين .. أمَّا بَعْدُ: فإنَّ الْإلْحَادَ في عُرْفِ عامةِ الناس يعني إنْكارَ وجودِ الله على صفاتِ الكمالِ والتَّقديس، والتكذيبَ بشرعِ الله، وجَحْدَ حقائقِ الغيب.. والإلحادُ في اللغة يعني الْمَيْلَ والانحرافَ عن الحقِّ الواجِب؛ وليس هو مُجَرَّدَ الْمَيْلِ؛ بل هو مَيْلٌ مُقَيَّدٌ .. ومن عموم الْمَفهومِ اللغوي حدَّدْتُ مفهومَ أنْواعِ الإلحادِ؛ فجعلتُ الإلحاد يشمل إنكارَ وجودِ الله، وجَحْدَ حقائقِ الغيب، والتكذيبَ بشرعِ الله: إما في ثبوته، وإما في صِدْقه، وإما في معقولِيَّتِه، وإما في عدْله .. مِثالُ ذلكَ إلْغاءُ عقوبةِ القَصاص حُكْماً بأنها ظالِـمَةٌ، أوْ غيرُ معقولة؛ فذلك نوعٌ من أنواع الإلحادِ، وإِنْكَارُ وجودِ الجِنِّ نوعٌ من الإلحاد؛ والْمُطالبةُ بالتحرر من قيود الشرع نوع من الإلحاد، وتفسيرُ حقائق الغيب بما ينافي خَبرَ خالقِ الغيب نوع من الإلحاد .. إلا أنني في مناقشة هذه الْمَسائل الإلحادية تحاشيتُ الْمَسائلَ العمليةَ، واقتصرتُ على الْمَسائلِ الاعتقاديةِ؛ فَلَمْ أُحْفَلْ مثلاً بشروطِ إقامة القصاص؛ لأن غرضي بيانُ الْمُعْتَقَدِ الصحيحِ في مشروعيةِ القصاص .. ولم يكن غَرَضِيْ ملاحقةُ شُبَهِ الْمَلاحِدة؛ وإنما كان الغرضُ تحريرُ العقلِ من أغاليطِ الفكر، وإقناعُ الناس بِثَمَرَةِ الإيمانِ بالله وبشرعه؛ ولهذا كان عنوانُ كتابي الذي نشرته عامَ 1403هـ: (لنْ تُلْحِدْ) تفاؤلاً وثِقةً باستجابة العقول الْمُنصفة لِـمُوجبات الضرورات الفكرية؛ ولهذا أيضاً كتبتُ عن الطائفة الْمَنصورة؛ دلالةً على ثمرةِ الإيمان وصدقِ الخبر الشرعي؛ ولهذا مَرَّةً ثالِثَةً حرصتُ على تحقيقِ (نظريةُ الْمَعرفِة والعلم) [الأبستمولوجيا]، ولا أُنْكِرُ أنَّ لي رِيادةً في هذا الباب، وصحَّحتُ ومَـحَصَّتُ طُرُقَ الاستدلالِ والجدل؛ لأنَّ تنظيم الفكر وتصحيحَ طرق الاستدلال قَمِيْنٌ بالْمُعتقد الصحيح .
قال أبو عبدالرحمن: هناك ظاهرة تَثْلِجُ صدْرَ الْمُؤْمِنِ؛ وهي أنَّ مفكري الملاحدة مُجَنِّدونَ أفكارَهم لهدمِ نظرية الْمَعرفة بسفسطة أوْ حِسبانية، وأمَّا مُفَكِّرُو الْمُؤمنين فهم أحْرَصُ الناسِ على تنظيمِ الْمَعرفة، وهدمِ السفسطةِ؛ وهذا يعني أنَّ الإيمانَ أسعدُ بضروراتِ الفكر.. وإذا كان في قضايا الإيمانِ كبعضِ مسائلِ الغيب ما يَحَارُ العقلُ في فهمه؛ لقصور وسائل الْمَعرفة البشرية عن تكييفه: فليس فيها ما يستحيل على العقل الإيمانُ به؛ وأمَّا قضيةُ الإلحاد فمستحيلة على تصور العقل.. إنَّ كتابيَ (لنْ تُلْحِدْ) محاولةٌ رائدة في نظرية الْمَعرفة: إما لأنَّ أغْلَبَ موادِّه من قضايا الْمَعرفة، وإما لأنَّ عمومَ منهجِ مواده استثْمارٌ لِـما صَحَّحْتُه مِن نظريةِ الْمَعرفة؛ لأن مدار هذا البحثِ على تحقيقِ نظرية الْمَعرفة نفسِها، وتصحيحِ طرق الاستدلال والجدل بناء علي الْمُحقَّق من نظرية الْمَعرفة، وكشْفِ أغاليط الْمَنْطِق .. وأخطاءُ الاستدلال فيما ناقشته من استدلالٍ: قائمٌ على الشُّبَهِ الإلحادية .. وكان منهجُ الطبعةِ الأولَـى قائِماً على تدوينِ بعضِ مُحاضراتي وَمَقالاتي التي كنتُ أَنْشُرُها في الصحف خلالَ عشرين عاماً؛ وهذا منهجٌ لم يُعْجِبْنِي؛ ولهذا فقد أهملتُ جملةً منها؛ لأنني غير راضٍ عنه، وما رضِيْتُه وزَّعته في أسفارٍ تحت عنوان عامٍّ مِثْلِ كتابي (الفنونُ الصُّغرى) .. إلا أنني ميَّزت بعض الأسفار بعناوينَ خاصةٍ؛ لَـمَّا رأيتُ موضوعاتِها موحَّدةَ الهدفِ؛ فكان السفر الأول بعنوان (هكذا علمني وَرْدْ زَوُرْثْ)؛ لأن موضوعات الفن والأدب هي التي تُوزَن بالْمِعيار الجمالي؛ وكتابي عن (وَرْدْ زَوُرْثْ) في صميم النظرية الجمالية؛ وكان كتابي (اللغةُ العربية بين القاعدة والْمِثال) مِن البدايات في تحريري (مقايِيْسُ اللُّغَةِ) [الضَّمُ في مِثْلِ هذا دائماً على الْحِكايةِ]؛ وكان كتابي (همومٌ عربية) بِدايَةٌ سَاذَجَةٌ في تناولِ تِأَزُّماتٍ تاريخية .. وتحاشَيْتُ الْمَنْهَجَ في جَمْعِ مَوَادِّ كتابي (لَنْ تُلْحِدْ) في طبعته الأولى عام 1403هـ، وَلَقِيَ بحمدِ الله قَبولاً لَدَى القُرَّاءِ .. وعلى الرُّغْمِ مِن ذلك لَمْ يَلْقَ قبولاً مِنِّي؛ لِسُوْدِ تصحِيحه، ولعدمِ استعمالِ علاماتِ الترقيمِ حَسَبَ دلالَتِها، وَلِفَقْدِه ضِعْفَيْهِ أو أكَثْرَ؛ مما حدا بي إلى تأليف هذه الأسفارِ الْمُبارَكَةِ؛ التي هي أجزاءُ السِّفِرِ الْأَوَّلِ مِن (الأعمالُ الكامِلةُ)، وقد قُلْتُ في الطبعةِ الأوْلَى (وَنِعْمَ ما قُلْتُ) : «إلى بَقِيَّة عُمرك يا أبَا عبْدِ الرحمن؛ لعَلك تعوُد إلى نِصَابك .. وإلى كُل مُلحِدٍ ليؤمن؛ وإلى كُل مؤمن ليزداد إيماناً مع إيمانه» .. ولقد قَدَمْتُ لهذا الكتابِ وكنتُ مُقِيماً يوماً وراء يومٍ مع زوجتي الثانية بمنزلي بالرياض/غبيراء/ دارة فيصل/ فجر يوم الخميس 26/ 1/1401هـ .
قال أبو عبدالرحمن: تلك الْمَوادُّ مِن مقالاتي وَمُؤَلَّفاتِـي وغيرُها مِمَّا لَمْ أَذْكُرْهُ ههنا: عاوَدّتُه بالتهذيب والتشذيب، والإضافةِ أو الإتْلافِ؛ وَوَحَّدْتُها في أسـفارِ كـتابي الذي سـيرى النور إنْ شاء الله تعالى خلال خمسةِ أشهر تقريباً بعنوانِ (الْأَعمالُ الكامِلَةُ)، وَلَـمْ أَرْضَ سوى التَّأْلِيفِ الْمَنْهَجِيِّ الَّذِيْ يَتَّصِفُ به مَنْ وُصُفُوا في تراثِنا بِحُسْنِ التَّأْليف كالإمام ابن حزمٍ، ومِن قَبْلِهِ الثَّوْريُّ، والشَّافِعِيُّ، وابنُ جريرٍ، وَغَيْرُهُم رحمهم الله جميعاً .. وَبَقِيَتْ عندي عُقْدَةٌ لَـمْ أَتَخَلَّصْ منها حتى هذه اللَّحْظَةِ، ولا أَظَنُّ أَنَّنِي سأتَخَلَّصُ منها .. وهذه العقدةُ: أنني أَمِيْلُ إلى تحقيقاتٍ مُبْتَكَرَة لِـمُؤلفين مُسْلِمِين، ومِن أهْلِ الكتاب، وعربٍ، وأعاجِمَ، وَخَواجاتٍ: كالشافعي وابن جرير وابن حزم وابنِ فـارس رحمـهم الله تعالى جميـعاً، و(ديكـارْتْ)، و(كَانْط)، و(تومـاس الْأَكْوِيْنِي).. تلك الْمُبْتَكَرَاتُ إذا وَجَـدْتُ فيها مجـالاً لِلإِضَافَةِ: لا أَتَوَانَى؛ فإذا وَجَدْتُ نَقْدَها عند غيري (وكثيرٌ من ذلك: إمَّا تَمَعْلُمٌ، وإمَّا اجتهادٌ خاطئٌ): أَحْمَيْتُ السَّفُّوْدَ؛ وكان ذلك على تَرْبِيَةٍ عَامِّيَةٍ ساذَجَةٍ؛ وهي قولُ عجائزِنا رحمهنَّ الله تعالى: (أَدْعُوْ على وُلِيْدِيْ، وَأَدْعُوْ على مَن يَدْعُوْ عليه) !! .
قال أبو عبدالرحمن: ومَا سَمَّاهُ الْمُحَقِّقُوْن (ولا سِيَّما الْخَوَاجاتُ) مَعرفـةً وعِلْماً مَقْرُوْنَيْنِ في تحقيـقِ (نَظَـرِيَّـةُ الْمَعْرِفَةِ) : كـانا صُـوْرَةً حاصِلَةً في عقل الإنسان عن الْمَوْجودِ الْمَحْسوس؛ وهذه معرفة تصوَّرية.. مثالُها: مَعْرِفتي برائحة (السنا) الذي سبق أنْ شممته، وأمَّا الصورة الحاصلة في عقل الإنسان عن موجود غير محسوس ساعة التصور، ولم يسبق للمتصوِّرِ الإحساسُ به: فإنَّها تَحْصَلُ بالوصفِ .. مثالُ ذلك: مَعْرفتي بالإسهال الحاصل عن (السنا) الذي لم أَرَهْ، ولم أُجَرِّبْهُ، فهذه تحصل بالوصف والقياس، وَتُبْنَى على معارِفَ حسيةٍ أخرى؛ وهذه الْمَعرفة تُسَمَّى الْمَعْرِفَةَ التصديقية، أو الحُكْمِيَّة، أو البرهانية.. وأركانُ هذه الْمَعرفة تقوم على أربعة أركان: الأَوَّلُ: الْمَعرُوف؛ وهو الشَّيْئُ الذي حصلت لعقلي صورتُه بواسطة الحس، أو الذي حصلت لعقلي صورتُه، أو صورةُ الحكم فيه بواسطة البرهان .. والعارِفُ؛ وهو النَّفْسُ التي تَمْلِك وسيلةَ الْمَعرفة الْمُباشرة .. ومُعَرَّفٌ (بالبناء للمفعول)؛ وهو النفسُ العارِفةُ بالبرهان؛ وكذلك الشيئُ الْمَعْروفُ .. ومُعَرِّفٌ (بالبناء للفاعل)؛ وهو الذي ينقل معرفتَه الحاصلةَ له مباشرةً، أو بالبرهانِ؛ ويجوز تجوُّزاً تسميةُ وسيلةِ الْمَعرفة مُعِرِّفاً .
وأنواع الْمَعرفة البشرية تأتي بعددٍ مِن الاعتباراتِ، وقد جمعتُها بالاستقراء، ولم أَرَ أحداً جمعها هذا الجمعَ، وهي كما يلي:
1 – معـرفــةٌ حـسـيـة موضـوعـية؛ وهـي الْمَعرفة الْمُباشرة للأعـيـان الْمَحسوسة كمعرفتي لهذا القلم الذي بيدي .
2 – معرفة معنويَّة؛ كمعرفتي أنَّ الْمَطر سببُ الإنبات بإذن الله، وأنَّ الْمَطر قبل الإنبات، وأن العِشاء بعد الغروب؛ فهذه معنوية؛ لأنَّ السَّبَبَ، والْقَبْلَ، والْبَعْدَ: أمورٌ غيرُ عينيةٍ: يراها البصر، وتْلمَسُها اليدُ … إلخ؛ وهي موضوعية؛ لأنها مفهومةٌ مِن أمورٍ حسيةٍ خارجَ النفس.
3 – معرفة كُليَّة؛ وهي أنْ أعْرِفَ جوانبَ الشيىءِ بكلِّ ما تستطيعه وسائل الْمَعرفة عندي؛ فأعرف: أنَّ التفاحة الخضراءَ ملساءُ، نديةٌ، غيرُ مجوَّفةٍ، كرويةٌ بطنُها أبيضُ، وبها حبوبٌ بُنِّيَّةٌ، ولها رائحةٌ مُعَيَّنَةٌ، ولها فوائدُ غذائيةٌ معينةٌ؛ وهي حُلْوَةُ الْمَذاق …. إلخ .
4 – معرفةُ جُزئيَّةُ كأن لا أعرف عن التفاحة إلا شكلها .
5 – معرفة تامَّة؛ كمعرفتي طَعْمَ التفاحة بطرف لساني .
6 – معرفة ناقصة؛ وهي الْمَعرفةُ الحاصلةُ بالوصفِ أو التشبيهِ كمعرفتي بأنَّ طعمَ التفاحةِ كطعمِ السُّكَّر ولم أذقْ التُّفاحةَ .
7 – معرفة مُطلَقَة؛ كقولنا: طرفا الْمُستقيم لا يلتقيان؛ فهذه مطلقةُ الزمان والْمَكانِ والحالَةِ؛ ولا يمكن أنْ يلتقيَ طَرفا الْمُستقيمِ في زمان ما, ولا مكان ما, ولا حالة ما؛ فإنْ الْتَقَيا فالخطُّ مُنْحَنٍ غيرُ مستقيم.
8 – معرفةٌ نسبية أو مُقيَّدة؛ كقولنا: يغلي الْمَاء في حرارة درجتها 100؛ فهذه معرفة حقيقية بالنسبة إلى ماءٍ مُعَيَّنٍ، وضغْطٍ معين .
9 – معرفة واقعيَّة؛ وهي إذا كانت صورةً لواقعٍ موجودٍ في الْمَوضوعِ، أو في خارجِه (أي خارجَ النَّفْسِ العارفة) .
10- معرفة وهمية؛ وهي ما كانتْ بخلاف الواقع؛ وسُمِّيَتْ معرفةً؛ لأنها صورةٌ في العقل؛ وسُمِّيَتْ وهميةً؛ لأنها لم تحصل للعقل بتفكير صحيح؛ وتسمى إراديةً، و اعتقاديةً .
11- معرفة إثبات، وهي الحكمُ بوجود شيىءٍ، أو الحكم له بصفة ما .
12- معرفة نفي؛ وهي أن تنفي وجود شيىءٍ، أو تسلب عنه صفة، أو حكماً.
13- معرفة حسية وِجْدَانِيَّة جُوَّانِيَّةٌ في النَّفْسِ، وهي ما أدركْتُه بحسي الباطن كمعرفتي بأنني فَرِحٍ أو مغموم .
14- معرفة تجريبية؛ وهي كل معرفة حسية تجريبية؛ ولكنْ جَرَى الاصطلاحُ على أنَّ الْمَعرفة الحسية لا تكون تجريبية حتى تكونَ نتيجةَ تطبيقات حسية متكررة في حالات مختلفة .
15- معرفة عقليةٌ؛ وهي الأفكارُ الخالصةُ، أو الْمُجرَّدةُ، أو الحدسيَّةُ (رؤيةُ العقل الْمُباشرة)، أو البديهيَّةُ، ولا تكونُ بديهية حتى تكونَ اضْطراريةَ، أو الأوليَّةُ، أو القبليَّةُ، أو الضروريَّةُ، أو الفطريةُ؛ فمن يقول: (لا يعرف العقل إلا بواسطة الحس): يُسَمِّي هذه الْمَعرفةَ عقليةً؛ لأن العقل جرَّدها من محسوساتٍ ما ثُمَّ عَمَّمَهَا .. ومن يقول: (إنَّ العقل يستقلُّ عن الحسِّ بالْمَعْرِفةِ): يُسَمِّي هذه الْمَعرفةَ عقليةً باعتبار العقلِ مصدراً لها .
16- معـرفــة روحـيةٌ أو إلهـامـيةٌ ؛ فيدخــل في ذلـك الرؤيـا الصادقــة، والتجلـيات في اليقظـة كالتلباثي عنـدمـا قال : عمر ابـن الخطـاب رضي الله عنه: يا سارية الجبل .
17- معـرفـةٌ يقينيـةٌ ؛ وهـي مـالا يدخـلـها احتـمال مُعْتَبَرٌ؛ وهـي معرفـةُ الواجبِ الْمُتعيِّنِ والْمُستحيلِ الْمُمتنع .
18- معرفـة احتـمالـية؛ وهي ما يَدْخلها احتـمـالٌ مرجوحٌ، ولهـا في السلوك العقلي حُكْمُ الْمَعرفةِ اليقينية؛ لأن إلغاءَ الرجحان سَفَهٌ وعناد ومكابرة للواقع، والأخْذُ بالمرجوح تحكُّم؛ إذ يقتضي الأخْذُ برجحانِ العقل (والرجحانُ من قوانينه) تارة، وتعطيلُها تارة .. كما أنَّ الخروجَ عن كلِّ احتمالٍ بِمُعطَىً آخر، أو التوقُّفُ : كلاهما تعطيلٌ للعقل، وسلوكٌ حُرٌّ غيرُ مسؤولٍ .