إنّ مبدأ التصنيف في العلوم مبدأ بوجه عام مهمّ وثابت، سواء تعلّق الأمر بالقديم أو الحديث. ويكون التصنيف مبنيّا عادة على مجموع الخصائص المشتركة التي تميّز هذا العلم أو ذاك. وتعرف العلوم بأصولها أو المبادئ الأساسيّة التي تقوم عليها، وبمجال معرفتها واهتماماتها، وأغراضها وطبيعة مادتها وغيرها.
والجامع بين علوم العربيّة أو ما يدخل في مجال اهتماماتها العناية باللغة العربيّة، سواء فيما يتعلّق بأصواتها أو دلالاتها أو صيغها أو تراكيبها أو أساليبها وكلّ ما يتعلّق بها.
وتصنيف علوم العربيّة عند القدامى لا اتّفاق بشأنه، وهو يتميّز بأطروحات وآراء مختلفة قد تقترب أو تبتعد، وقد تتّفق أو تختلف، وذلك باختلاف وجهات النظر، أو باختلاف الزوايا التي ننظر منها إلى هذه العلوم، أو الفروع في العلم الواحد. وهذه التصنيفات سبق أن تعرّض لها علماء كبار سواء كان في مجالات لغوية محدّدة، أو في مجالات لغويّة عامّة. وللوقوف على بعض هذه التصنيفات نشير إلى نماذج دالّة منها:
1-تصنيف سيبويه لمسائل النحو المستخلص من كتابه، إذ يشمل عنده التراكيب، والصيغ الصرفيّة، والأصوات الوظيفيّة والأصوات المحضة.
2-تصنيف ابن جني في مجال عرضه لمسائل التصريف الوارد في كتابه المنصف، وهو يشير إلى العلاقة القائمة بين النحو وعلم اللغة والاشتقاق والتصريف.
3-تصنيف علوم العربيّة عند السكّاكي في كتابه مفتاح العلوم، وهو يشمل عنده علم الصرف والاشتقاق، وعلم النحو، وعلم البلاغة، فضلا عن ملحق للمنطق والعروض والقوافي.
4-تصنيف ابن خلدون ولعله الأهمّ، وهو يشتمل على علم اللغة (ويضمّ المجاز والألفاظ وفقه اللغة)، وعلم النحو، وعلم البيان (الذي يتناول الدلالة وعلم البديع)، وعلم الأدب (الذي يضمّ الشعر والنثر).
هذه التصنيفات، مثلما أشرنا إليها، فيها ما هو جزئيّ مثل تصنيف سيبويه أو ابن جنيّ، وفيها ما هو شامل مثل تصنيف السكّاكي وابن خلدون. وكلّها تستجيب لما شاع في الدرس اللسانيّ الحديث، وذلك بالنظر إلى المستويات التي هي مرشّحة للتحليل والتوصيف والدراسة، وهي الأصوات بفروعها الوظيفيّة والنطقيّة والسمعيّة، وأبنية الكلمات ومسائل الصرف، والتراكيب المختلفة سواء كانت إسناديّة أو غير إسناديّة، والألفاظ أو الوحدات المعجميّة سواء تعلّقت بالمعجم أو لا، والدلالة بأنواعها سواء في حالة الإفراد أو التركيب، وهذا فضلا عن دراسة السياقات أو المقامات في جانبها الأسلوبيّ أو الذرائعيّ.
إنّ ما دعانا إلى الذهاب هذا المذهب في إثارة هذا الموضوع، ما استمعنا إليه في محاضرة على اليوتوب جاءت بعنوان “مدخل إلى علم اللغة العربيّة”، لصاحبها د. محمّد بن علي العمري، يصنّف فيها علوم العربيّة إلى ستة أصناف وهي: فقه اللغة، وعلم الأصوات، وعلم الصرف، وعلم النحو، وعلم البلاغة، وعلم العروض. وهو يجعل فقه اللغة في أعلى هذه القائمة لأهميّته وقيمته.
ومن باب الحوار وتلاقح الأفكار، وتعميق مسائل العلم نشير إلى أنّ لدينا اعتراضات على هذا التقسيم نجملها في النقاط التالية:
لقد غاب عن هذا التصنيف ركيزتان هامّتان في علم اللغة، ألا وهما المعجم والدلالة. المعجم بالنظر إلى كونه علما ينظر في الألفاظ أو الوحدات المعجميّة، ووضعها النظريّ والتطبيقيّ في القاموس. والدلالة بالنظر إلى كونها رصدا للمعاني الملازمة للكلمات، سواء في حالة إفرادها أو تركّبها، والمقاصد الحاصلة من وراء الكلام.
ولقائل أن يقول، إنصافا للمحاضر: إنّ المحاضر قد أدرج الألفاظ والمعاجم في نطاق فقه اللغة، ولكنّ هذا في رأينا ينافي واقع علوم العربيّة، لأنّ فقه اللغة شيء، وعلم اللغة شيء آخر. وعلم اللغة تاريخيّا أسبق من فقه اللغة، وهو قد نشأ مع النحو إن لم يكن قبله، في الوقت الذي لم يبرز فيه فقه اللغة إلا في القرن الرابع للهجرة على يد ابن فارس.
إنّ جعل فقه اللغة الأوّل في التصنيف فيه نظر، ذلك أن فقه اللغة لم ينشأ إلّا متأخرا، وذلك بالنسبة إلى علم اللغة والنحو والصرف والأصوات، وبالنسبة إلى الإرهاصات الأولى لعلم البلاغة والبيان. وفقه اللغة علم لا يعتدّ به لأن مسائله قد نجدها متفرّقة في أبواب النحو والصرف، والدلالة والمعجم، والأصوات.
إنّ فقه اللغة تاريخيّا جاء في ظلّ الصراع بين العرب والشعوبيّين للدفاع عن اللغة العربيّة، وكانت أهمّ مداخله “هل اللغة توقيف أم اصطلاح؟” و”هل الدخيل عربيّ أم أعجميّ؟”، و”سنن العرب في كلامها” وغيرها من الموضوعات المعروفة. ولا يخفى أنّ ابن فارس هو المبتدع لهذا العلم. ولا نجد غيره ممّن كتب في فقه اللغة، إذا استثنينا السيوطيّ في القرن العاشر في مزهره الذي كان فيها جمّاعا وناقلا لأفكار وآراء غيره أكثر من أن يكون مبدعا. وأما بالنسبة إلى ابن جنيّ المحسوب على فقه اللغة في كتابه الخصائص، فالوقائع تشي بأنّ هذا الكتاب، ومثلما يشير إلى هذا ابن جنيّ نفسه هو كتاب في فلسفة النحو، وهو من طبيعة مختلفة تختلف كثيرا عمّا جاء في الصاحبي لابن فارس، وإن جاءت بعض المواضيع مشتركة بينهما. وأمّا بالنسبة إلى كتاب فقه اللغة للثعالبيّ فليس له من فقه اللغة إلّا الاسم، وهو كتاب وبصورة واضحة يندرج في نطاق المعاجم المعنويّة.
إذن وبالنظر إلى كلّ ما ذكرنا فإنّ التصنيف السداسيّ المشار إليه، وجعل فقه اللغة في طليعة علوم العربيّة لا يستقيم بأيّ حال من الأحوال، وهو لا يغطّي علوم العربيّة ولا يفيها حقّها. وفي اعتقادي إنّ أيّ تصنيف لا بدّ أن يراعي كلّ التصنيفات السابقة في المضمار نفسه، ثمّ لا بدّ من التعرّض لهذه التصنيفات بالنقد إن كانت عرضة للنقد. ثمّ لا بدّ من جهة ثانية من الإلمام بالعلوم الحديثة وتصنيفاتها، حتى لا نسقط في اجتهادات جوفاء لا معنى لها، ونعود بالبحث إلى نقطة الصفر. والعلم كلّ متكامل، وهو تراكم معرفيّ يتطوّر إلى الأمام لا محالة، ولا مجال للعودة به إلى الخلف.