و بعد أن تقدم به العمر و توفيت زوجته الله يرحمها صار يسكن مع أولاده ليخدموه ، وقد رزقه الله من الابناء أربعة أولاد كلهم وبفضل الله من البارين ، ولكن لابد من القصور ولو حرص الإنسان ، و أبوهم كان معروف بقوته و هيبته و نفاذ كلمته وكان إذا قيل : ( أستاذ فلان ) جاء المدرسة حتى المدرسين و العاملين يخافون فما بالك بالطلاب ، وكان دائما يضرب أبناءه ضربا شديدا، ويعلق لهم خيزرانه عند الباب يسميها " العلامة " لأنها تترك اثر على الجسم مثل علامة الكي . وعندما شاخ أدركه الضعف و الهزال و شعر بأن أولاده يدركون هذا الشئ و يتعاملون معه على أساس هذا المنطق .
يروي لي القصة أحد أولاده فيقول بأن والدهم أرسل لهم رسالة في الجوال يقول فيها :
* العادات احيانا تسوقنا للخطأ ، عذرا أولادي على ما بدر مني في صغركم ، كنت شديد القسوة عليكم ليس لأني لا أحبكم ، لا و الله ، بل أنتم أغلى من أنفاسي التي تشق صدري ، و لكن في زماننا الأب القاسي هو الوحيد الذي يربي أولاده ، أما الحنون المتساهل فهو أب فاشل يسوق أبناءه إلى الفشل ، فنهجت نهج القوة متوقعا أن ذلك أنفع لكم و أفضل ، ولم يكن العلم يؤثر في هذه العادات كثيرا .
محمد
و إبراهيم
و عمر
و ياسر
لا تستلون خناجركم الحادة لتغرسوها في صدري كل يوم ..
عندما أراكم تقبلون أبناءكم و تترفقون بهم فو الله إن قلبي يتقطع من الوجع و ودي أصيح و أقول لكم و أنا أيضا كنت أحبكم ولا أزال .
فلماذا عندما يقبل أحدكم ولده ينظر إلي نظرة كالخنجر المسلول ليطعن بها قلبي و كأنكم تقولون تعلم منا الحب
و الحنان ، و افهم كيف ينبغي أن يتعامل الآباء مع الأبناء .
أولادي هذا ليس زماننا ولا يمكن ان يرجع شئ فات أوانه فلا تعلموا شيخا مالم يعد ينفعه .
و إنا الآن أطلب منكم العذر و السماح ، و إلا أنا امامكم الآن ، و تلك عصاتي ، و بقربها خنجري ، فاقتصوا مني الآن ، ولا تعذبوني بنظراتكم تلك * .
يخبرني بالقصة صديقي أصغر أولاده ياسر وهو الآن أب لثلاثة أبناء ولدين
و بنت ، يقول ياسر : كلنا تأثرنا برسالته
و ذهبنا نقبل رأسه
و يديه و قدميه
و أجمعنا له كلنا بأنه لولا الله ثم تربيته لنا ما كنا رجالا ناجحين .
يقول ياسر :
عندما ذهبت إلى السرير لأنام ظلت كلمات والدي ترن في أذني و تؤلمني في قلبي اتقلب و كانني فوق مله ، و حينها أجهشت باكيا و بكيت بكاءً مراً فكتبت لأبي رسالة في الجوال قائلا : أبي الحبيب .. قد تكون أدركت جزءا من نظراتنا لك حين نحتضن أولادنا و هذا دليل عللي فطنتك ،
و لكن لا يعلم الغيب إلا الله ، و الله إني أنظر إليك و أقول ماذا لو قبلني أبي الآن ؟
فأنا و إن كنت قد كبرت و أصبحت أبا
و خالط الشيب سواد راسي فهذا لا يعني أني لا أحتاج لحضنك الدافئ و قبلاتك الحارة ، فهل لي بحضن واحد و قبلة ؟
أرسلها إلى جوال أبي
و غلبني النوم فنمت.
عند الفجر خرج ياسر من غرفته لأجل أن يصلي فوجد أباه واقفا متكأ على عكازه عند الباب و يقول : منشدا
* تعال يا ابوي أضمك إلى صدري .
ما ظننت الضرب بيشب جمري .
إن كان اني أصبت فلله دري .
وان كان اني غلطت فلك عذري .
ما تدري عن غلاك لكن انا أدري .
انت الروح و الكبد
و حزام ظهري .
تعال يا ياسر أضمك
و خذني لقبري .. *
وضمه إلى صدره
و قبّله و بكى الاثنان حتي خرجت زوجة ياسر علي صوت البكاء و صارت تبكي هي أيضا بكاء شديدا لأجل المنظر المؤثر .
و ماهي الا دقائق حتى شهق الاب شهقة طويلة و وقع من حينه متوفيا ، قال ياسر حاولت في سرعة اسعافه و نقله للمستشفي لكن ، حدث أمر الله.
رحم الله هذا الوالد العظيم و المعلم لمبجل.
* فترفقوا أيها الأبناء بوالديكم وقد يكون لديهم ما يقولون و لكن لا يستطيعون البوح به كما فعل هذا الأب .
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا و ارحمهما كما ربيانا صغارا .