كانت مصر قبل دخول الاسلام إليها ولاية رومانية منذ موت كليوباترا في ثلاثينات القرن الأول قبل الميلاد، وحتى معاهدة الاسكندرية سنة 641م التي تم فيها تسليم مقاليد الأمور الى عمرو بن العاص، وطوال ما يقرب من سبعة قرون، كانت مصر مجرد سلة الخبز للإمبراطورية الرومانية، وكانت لا تزال في سباتها الحضاري بعد فترة التوهج الفرعونية الطويلة، وفترة مغالبة السبات التي تلتها طوال حكم الأسرة البطلمية، ولم تسهم مصر في الحضارة الإنسانية خلال تلك الفترة سوى عن طريق الديانة المسيحية، سواء بتقديم الرهبنة إلى العالم المسيحي أو بصوغ بعض المذاهب اللاهوتية التي رأت فيها كنيسة الأسكندرية نوعًا من وسائل المقاومة ضد هيمنة الكنيسة البيزنطية، وقد تبلور الموقف “الوطني” المصري حول موقف الكنيسة المصرية التي لقيت كل صنوف العنت والاضطهاد بسبب ذلك.
لقد غيرت مصر دينها مرتين: من العبادات الفرعونية القديمة الى المسيحية مرة، ومرة أخرى من المسيحية الى الإسلام، لكنها لم تغير لغتها وإطارها الثقافي سوى مرة واحدة من اللغة المصرية القديمة، بتطوراتها المختلفة ومسمياتها الثلاثة، إلى اللغة العربية، وكان هذا في حد ذاته نوعًا من التحول في مسيرة مصر الحضارية عبر تاريخها الطويل.
كانت مصر في عصور الفراعنة أرض حضارة رائدة، تعلمت منها شعوب كثيرة، ونقل عنها الإغريق القدماء، وتعلم منها الرومان كما تعلموا من كل الشعوب التي غلبوها بالقوة العسكرية، ثم جاء العصر البطلمي فالروماني، ولم تتأغرق مصر مع أن اللغة اليونانية ظلت حية في مدرسة الإسكندرية، ويشهد تراث مدرسة الاسكندرية في العصر الهيللينستي على نوع من الحيوية الثقافية والحضارية حقًا، ولكنها انحصرت في دوائر الأسرة الحاكمة من اليونان المتمصرين، ومن لف لفهم من الشرائح التي ترتبط دائمًا بالحكام في كل المجتمعات الإنسانية، وبقيت الكتلة الكبرى من جماهير المصريين خارج نطاق هذه الحياة، وبعيدة عن الأخذ بثقافة الحكام وأساليبهم.
وبعد مقتل كليوباترا السابعة، ابنة بطليموس الزمّار آخر ملوك البطالمة في مصر، تحول هذا البلد الى ولاية رومانية تابعة للإمبراطور مباشرة، ولم يحدث في حياة المصريين شيء يذكر سوى انهم استبدلوا سيدًا أجنبيًا بسيد أجنبي آخر، على رغم أن البطالمة كانوا تمصروا من ناحية، كما أنهم كانوا يحكمون مصر حكمًا مستقلًا من ناحية أخرى، ولم تستطع الحاميات العسكرية الرومانية، بطبيعة الحال، أن تؤثر في المجتمع المصري الذي ظل يواصل حياته بعيدًا عن الحكم وأهله، وحينما انتشرت المسيحية في مصر، آثر المصريون أن تكون كنيستهم الوطنية مستقلة متمايزة عن كنيسة الإمبراطورية البيزنطية التي ورثت الحكم الروماني في مصر، وكان ذلك سببًا من أسباب معاناة المصريين وكنيستهم، ومرة أخرى لم يستطع الحكم البيزنطي أن يفرض لغته أو ثقافته على المصريين.
ماذا حدث بعد الفتح الاسلامي لمصر؟
لقد دخل الجيش الاسلامي، بقيادة عمرو بن العاص، مصر واستقر فيها المسلمون بعد ذلك.
ولقد كان هذا الفتح بداية عصر جديد في التاريخ المصري، تحولت فيه مصر من دور المفعول به الى دور الفاعل الحضاري المؤثر في المنطقة، مثلما كانت الحال زمن الفراعنة، إنَّ دخول المسلمين بقيادة عمرو بن العاص إلى مصر كان في الحقيقة عملًا عسكريًا تمت ممارسته بالقوة المسلحة، وهو أمر طبيعي عند مستوى الممارسة السياسية والعسكرية، فلا يمكن بداهة أن تقوم دولة بفرض سيطرتها على دولة أخرى أو ولاية من ولايات هذه الدولة الأخرى من دون عمل عسكري، تلك هي طبيعة العلاقات الدولية في كل العصور.
وكانت دولة الخلافة الاسلامية دولة صاعدة تواجه دولتين آفلتين هما دولتا الفرس والروم، وكان الصدام محتمًا بين هذه الدول الثلاث بحكم حقائق الجغرافيا السياسية وحقائق التراث التاريخي.
ولأن الدولة العربية الإسلامية كانت دولة مثل سائر الدول، فإن آليات العلاقات السياسية مع القوى المعاصرة كانت محكومة بقوانين العقيدة السياسية والقوة العسكرية، وكان الإسلام قوام العقيدة السياسية في حين كان الجهاد عصب القوة العسكرية في هذه الدولة، وأسفر الصدام المحتوم عن اختفاء دولة الفرس وذوبانها في الكيان الإسلامي الأوسع، وتقلص مساحة دولة الروم إلى بقاع صغيرة في آسيا الصغرى وحول القسطنطينية وبعض المناطق على الضفة الأوروبية من المضايق، وخرجت المنطقة العربية على الشواطئ الشرقية والجنوبية من نطاق السيادة البيزنطية لتشكل منطقة القلب في الكيان الإسلامي كله، وكان ذلك أمرًا مدهشًا، ولا يزال، فقد تعربت المنطقة وصار الاسلام دين الغالبية من أبنائها، في حين انتشر الإسلام في مناطق أخرى ولكنها لم تتعرب بشكل نهائي.
وكانت مصر حلقة المفصل بين مشرق المنطقة العربية ومغربها، وفي غضون أقل من قرنين ونصف القرن من الزمان كانت مصر طورت شخصية سياسية متمايزة داخل دولة الخلافة، وبدأت فيها محاولات بناء الدولة المستقلة متمثلة في أسرة أحمد بن طولون، ومن بعدها في الأسرة الإخشيدية، ثم قامت الدولة الفاطمية في خمسينات القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، وأعقبتها الدولة الأيوبية التي أسّسها صلاح الدين الأيوبي في خضم الصراع ضد الصليبيين، وورثها المماليك عن سادتهم الأيوبيين في خضم الصراع ضد الصليبيين والمغول بعد سقوط الخلافة العباسية في بغداد، وعلى المستوى السياسي كانت مصر تحولت الى قوة فاعلة في المنطقة العربية والعالم الإسلامي منذ زمن أحمد بن طولون في القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي، وحتى مقتل السلطان طومان باي مشنوقًا على أيدي العثمانيين على باب زويلة في القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي.
تحولت مصر بفضل الحضارة العربية الإسلامية إلى قوة حضارية فاعلة على المستوى السياسي والعسكري بعد سبات طويل تحت حكم البيزنطيين والرومان والبطالمة من قبلهم، وبعد أن تمت عملية الأسلمة والتعريب على مدى قرنين ونصف القرن من الزمان تقريبًا، تحولت مصر من ولاية تتبع دولة الخلافة الراشدة، ثم الأمويين فالعباسيين، إلى دولة شبه مستقلة، ثم إلى دولة خلافة منافسة، ثم صارت المعقل الأخير للدفاع عن الحضارة العربية الإسلامية على مدى ما يزيد على ثلاثة قرون ونصف القرن عصر الأيوبيين والمماليك.
وهنا ينبغي أن نلاحظ أن الآلية التي سمحت لمصر بهذا التحول الدرامي المثير في دورها السياسي والعسكري ترتبط بطبيعة الحضارة العربية الإسلامية التي تقوم على أسس إنسانية عالمية تعترف بالآخر وتفسح له مكانًا وهو الأمر الذي لم يحدث، ولم يكن ممكنًا أن يحدث، في ظل الإمبراطورية الرومانية ووريثتها البيزنطية التي لم تسمح لمصر بأن تخرج عن دور سلة الخبز الرومانية.
لقد تم فتح مصر بالقوة العسكرية حقًا، وكان هذا من عمل الدولة وآلتها العسكرية، لكن الثابت من المصادر التاريخية كافة أن الفاتحين لم يجبروا أهل البلاد على اعتناق دينهم أو التحدث بلسانهم، ولن نتحدث عن مساعدة الأقباط لجيش عمرو بن العاص، فهو أمر مشهور ومعروف، ولن نتحدث عن موقف بنيامين، بطريرك الأقباط الفار إلى الصعيد من اضطهاد البيزنطيين، من عمرو بن العاص والمسلمين، فذلك أمر معروف أيضًا.
ولكننا نلاحظ أن الإسلام لم يصبح دين الغالبية سوى بعد القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، كما أن اللغة العربية صارت لغة المصريين جميعًا في الإدارة والعلم والثقافة والحياة اليومية مع نهاية القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي، ويعتبر القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي أهم القرون في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية في مصر، إذ جاء ليشهد نضوج عملية المواءمة بين تراث مصر الحضاري الطويل من ناحية وما جاءت به العروبة من ناحية أخرى، وخرجت مصر بشخصية ثقافية متمايزة داخل المجرى العام للثقافة العربية الإسلامية، شأنها في ذلك شأن دمشق الشام، وبغداد العراق، والقيروان، وغيرها من الحواضر العربية الاسلامية التي وُجدت في كل منها مدارس علمية متنافسة متعاونة في آن معًا. وبفضل مفهوم “دار الإسلام” كانت الرحلة في طلب العلم من أهم عوامل الحيوية الثقافية والتلاقي الفكري والعلمي في كل أركان العالم الإسلامي، وهنا وهناك بدأ الابداع العلمي والثقافي والفني في رحاب الحضارة العربية الإسلامية، وشارك المسيحيون واليهود بقدراتهم في هذا الابداع بفضل التسامح الذي ميز الحياة في العالم الاسلامي عمومًا، ولم تكن مصر استثناء في ذلك بطبيعة الحال.
فمنذ البداية تطورت في مصر مدارس فقهية وأدبية، وبرز فيها فلاسفة وشعراء وعلماء، ووفد اليها نظراؤهم من كل مكان، ثم تزايد دور مصر الثقافي بعد سقوط الخلافة الفاطمية في الربع الأخير من القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، وبروز الدور الذي لعبه الأيوبيون ثم ورثه عنهم سلاطين المماليك. وصارت القاهرة مقصد العلماء والباحثين والفقهاء والفنانين عندما اشتدت وطأة الهجوم على العالم الإسلامي من الشرق والغرب.
وكان على القاهرة أن تكون القلعة والحصن الحامي على المستوى السياسي والعسكري، وعلى المستوى الثقافي والعلمي أيضًا، وتكشف أسماء العشرات من الفقهاء والعلماء والأطباء وعلماء الفلك والمؤرخين والجغرافيين والفلاسفة والمتصوفة والفنانين والمهندسين الذين تحفل بهم صفحات كتب التراجم والسير، عن أن مصر أسهمت بشكل فاعل في الحفاظ على تراث الحضارة العربية الإسلامية حين جرت على العالم الاسلامي شرقًا وغربًا وقائع وأحداث كشفت عن الوهن الذي أصاب ذلك العالم.
ولسنا بصدد رصد الإسهامات المصرية في الحضارة العربية الإسلامية، لكن ما نريد أن نوضحه هو أن دخول الجيش الإسلامي إلى مصر حوّل المسار التاريخي لهذه البلاد بشكل واضح، وغيرها من حال التبعية السلبية للإمبراطورية البيزنطية إلى قوة حضارية نشطة في رحاب الحضارة العربية الاسلامية، ولأن مخزون التراث الحضاري الطويل لدى مصر وجد الحافز المنشط في الإسلام والعروبة، الإسلام نظامًا للقيم والمثل وعقيدة وشريعة وأساسًا للفعل الإنساني الأخلاقي، والعروبة لسانًا وانتماءً ثقافيًا، فإن مصر عادت بعد انقطاع دام قرونًا طويلة لكي تسهم في الحضارة الانسانية.
لم يكن الفتح الإسلامي لمصر مجرد استبدال حاكم أجنبي بحاكم أجنبي آخر، وانما كان انتقالًا من حال إلى حال: من حال التبعية السياسية والخضوع العسكري والعالة الحضارية، إلى حال المشاركة في صنع حضارة قوامها الدين الجديد واطارها اللغة التي تتشابه في جوانب كثيرة مع لغة المصريين، وإلى حال القيادة والريادة عندما دهم العالم الإسلامي خطر الصليبيين القادم من الغرب الكاثوليكي، وخطر التتار القادم من الشرق، وعلى رغم التدهور الذي أصاب المنطقة العربية كلها منذ القرن السادس عشر الميلادي، فإن أي مشروع نهضوي تقدمي في مصر أو العالم العربي يتجاهل البعد العربي والإسلامي لا بد وأن ينتهي بالإخفاق والفشل.
منقول بتصرف، المصدر دكتور قاسم عبده قاسم: دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية.