ترتبط بعض التراكيب والألفاظ باستعمالات خاصة ترد إلى الذهن وإن لم تكن مرادة في السياق، هذا ما كان من أمر عنوان هذا البحث الذي كتبه زميلنا يحيى بن عبدالله بن حسن الشريف، ونشر في مجلة الدراسات اللغوية المجلد الثامن عشر العدد الأول (المحرم-ربيع الأول 1437ه)، لا أدري لماذا قفز إلى ذهني التمثيل بقتلى المعارك، ربما لأن ما دار حول بيوت ابن مالك في الكتب الحديثة والمواقع الشبكية هو لون من المعارك بين متحيزين لشخص ابن مالك ومتحيزين لما هو فوق كل الشخوص وهو العلم والحقّ، بل سماها معركة عبدالعزيز الحربي رئيس مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية.
لقد حسم الشريف أمره في العنوان الذي صدر به بحثه أو دراسته حين جعل ما ورد من بيوت الشعر عند ابن مالك من قبيل الأمثلة، وعلى الرغم من هذه النتيجة المبكرة حاول أن يجعل لدراسته مكانة وهو أمر مشروع؛ ولكن الأمر المتوقف فيه النظر إلى الدراسات السابقة أو الأعمال السابقة أنى صنفتها؛ فلا يلزم أن تأتي الدراسة الجديدة مسوغة لنفسها باتهام ما سبق بالقصور؛ إذ الدراسات تتوالى فمنها ما يكمل بعضها بعضًا ومنها ما يكون لها غرض مختلف عن أغراض تلك الأعمال السابقة، يقول الباحث في ملخص بحثه (ص171)"وناقش البحث المسائل المختلفة مناقشة دقيقة متعمّقة، وغاص في تعيين مرامي ابن مالك وتوضيح مقاصده، وتأصيل كل ذلك وربطه بأصول الصناعة، وهذا ما تفتقر إليه الدراسات التي تناولت هذه القضية التي توجَّهَ بعضها إلى اتهام ابن مالك بالوضع والصناعة وإحصاء الأبيات وعدها دون الولوج إلى أس وجوهر المسائل، أو الدراسات التي قامت دفاعا عن ابن مالك ومحاولة الدفاع عنه دفاعا تغلب عليه العاطفة، أو محاولة البحث عن نسبة الأبيات وعزوها"، ومن الواضح أن تلك الأعمال السابقة واضحة أهدافها وهو ما حدد مضمونها، وليست مفتقرة كما يظن الشريف إلى ما جاءت به دراسته من مسائل وصف مناقشته لها بأنها "دقيقة متعمقة" وهي تزكية للنفس كان يجمل به تركها لفهم القارئ، وأمر آخر لفت انتباهي وهو أنه ضرب صفحًا عن أعمال ومشاركات أراها مهمة في الحديث عن بيوت ابن مالك، منها كتابة جواد الدخيل "نظرة في شواهد ابن مالك: كتاب شواهد التوضيح والتصحيح نموذجًا"، مجلة الدراسات اللغوية، مج14، ع2، ربيع الآخر-جمادى الآخرة، 1433ه، مارس-مايو 2012م. ص 41-63. وكتابتي عن نظرة جواد بعنوان "شواهد أم أمثلة"، في المجلة الثقافية، ع382، الخميس 18، ذو القعدة 1433ه، ثم كتابتي عن كتاب فيصل المنصور "تدليس ابن مالك"، صحيفة الجزيرة،ع 15157 السبت 28 جمادى الأولى 1435ه، وكتابتي عن بحث رفيع السلمي بعنوان "هل من براءة لابن مالك"، ع470 السبت 27 رجب 1436ه، وفي موقع مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية "معركة ابن مالك" لعبدالعزيز الحربي.
يقول الباحث في مطلع بحثه عن ابن مالك(ص172) "مارس عملية إحياء نفض فيها الغبار عن نصوص كثيرة جدا بقيت هامدة في ثنايا الكتب والمؤلفات والرسائل، وسجّلتها الصحائف والدواوين والمختارات، فبعثها تدبّ فيها الحياة ضمن قراءة موسوعية أحاطت بالتراث منظومه ومنثوره إلا ما ندر"، إن غضضنا الطرف عن الإنشائية في هذا النص لا نجد ابن مالك يختلف عن غيره في استعمال شواهد سيبويه وما أضافه لاحقوه من الشواهد المعتبرة وهي شواهد تتوارثها المطولات النحوية، وعاد الباحث إلى ما وضعه ابن مالك من أمثلة ليصفها بأنها مقيسة على المسموع، قال (ص173) "وبعد أن أحكم ابن مالك المسموع، وضبطه أو كاد ذهب يُعمل فيه أصلا نحويا وهو قسيمه (القياس) واستعمله بأكثر من طريقة، وأبرز قياساته في أمثلة شعرية من نظمه تناثرت في كتبه، وتعاورها من بعده النحاة"، والباحث بهذا يقرر وضع ابن مالك للأبيات وأن من بعده من النحويين تعاوروها ولكنه سكت عن الكيفية التي تعاوروا بها تلك البيوت الموضوعة؛ إذ هم وثقوا به وتوهموا أن ما يسميه الباحث أمثلة شواهد ولذلك استعملوها ليرجحوا رأيًا على رأي.
ويحاول الباحث جاهدًا أن ينأى بنفسه عن اتهام ابن مالك، فهو يعلق على عمل فيصل المنصور بقوله (ص177) "وقضية أن هناك أبياتا كثيرة لابن مالك في بعض كتبه فهذا أمر محسوم، ولكن الفرق والتباين بيننا في تفسير هذا الصنيع من ابن مالك كما سيبين هذا البحث"، فالباحث يوافق فيصلًا في وضع ابن مالك لتلك البيوت الكثيرة، ولكنه يرى نفسه مخالفًا له في تفسير صنيع ابن مالك، ولست أرى ما فعله الباحث مفسرًا لعلة سكوت ابن مالك عن التصريح بوضع تلك البيوت بل راح ينسبها حينًا لشاعر من طيّئ وهو أمر قد يوهم بقدم البيوت، وجل ما فعله الباحث هو درس وصفي لميادين استعمال تلك البيوت وهو أمر نافع؛ ولكنه لا يغفر لابن مالك ولا يبرئه إن كان الباحث يروم تبرئته، ويذهب الباحث مذهبًا غريبًا حين يقول (ص177) "إن الكذب ليس واردا عليه لأنه لم ينسب بيتا إلى غير قائله، ولم يكذب حين نسب أبياتا لرجل من طيئ، أو نسبها لأحد الفصحاء أو لإمام من أئمة العربية فكل هذا يصدُقُ عليه"، وهذه مغالطة وسفسطة بينة، نعم هو ليس بذلك كاذبًا ولكنه مدلس كما قال المنصور، وينفي الباحث في الصفحة نفسها عنه التدليس بحجة أن طريقة المحدِّثين تختلف عن طريقة النحويين وأنه "لم يكن لزاما على ابن مالك أن يخبر بهذه الأبيات" وهو قول لا يخلو من لبس فإن كان يقصد بأنه لا يلزمه نسبة البيوت كان التوقف في هذا؛ لأنه ليس في عصر الاحتجاج حيث يقبل الشعر المجهول القائل، وإن كان يقصد أنه ليس ملزمًا أصلًا بوضع تلك البيوت فالقول إنه قد فعل. ومن عجب أن يقول الباحث في (ص187) "ومع أن ابن مالك لم يُرِدْ لتلك الأبيات أن تكون شواهد، ولكنّه لو أراد ذلك فإن له في كلام المتقدمين ما يشفع له"، وينقل نصًّا لابن قتيبة يعيب فيه من يقبل القديم لقدمه لا لجودته، وقول ابن قتيبة صالح في نقد الشعر وبلاغته؛ ولكنه لا علاقة له بالاستشهاد، فالشاهد لا ينظر فيه إلى جمال بل إلى توافر شروط الاستشهاد به، ولست أخالف في أمر شاعرية ابن مالك وجمال سبكه ولا أدفع حقه بأن يمثل بما شاء من مُثُل من شعره أو من شعر غيره؛ ولكن المطلوب التصريح بأن ما يساق هو من قبيل التمثيل أو الاستشهاد. ونقع في حيرة أفَمدحًا يراد لنا أن نفهم أم قدحًا من قول الباحث (ص200) "كان من طريقة ابن مالك أنه عند تناول بعض المسائل يسوق عليها أبياتًا من نظمه ويترك ما استشهد به النحاة عليها". ومن ذلك قوله في (ص226) "قد يكون الشاهد المسوق للاستشهاد على مسألة ما غير محقق للمراد كما يريده ابن مالك ويرى أن غيره أكمل في الدلالة، ويظهر هذا الأمر في مثل مسألة نصب المضارع بـ(أن) مضمرة"، ومثله في الصفحة نفسها "فقال ابن مالك: إنه لا يُستشهد على هذه المسألة بما أنشده سيبويه من قول زهير السابق؛ لأن الفعل المتقدم على الفاء منفي، وجواب النفي يُنصب في مجازاة وغيرها، وإنما يستشهد بقول الشاعر:
ومن يقتربْ منّا ويخضعَ نُؤْوِهِ ***ولا يخش ظلما ما أقام ولا هضما
فقد رأى ابن مالك أن بيته أوفى بالقاعدة وأسلم من استدراك". ومثله قوله في (ص205) "وكان من طريقته أنه قد يمثّل على المسألة ببيت من شعره، ويذكر المسألة نفسها في مؤلَّف آخر فيمثل ببيت آخر"، وهو يذكر في (ص207) كيف أن ابن مالك ردّ الزعم بأنه لم يسمع النصب في خبر (لا) العاملة عمل (ليس) ملفوظًا، وأورد بيتين من نظمه، وقد فعل ذلك لما رأى الشواهد الواردة يدخلها الاحتمال "فلم يبق ما يدل على أنها تعمل عمل (ليس) إلا البيتان السابقان". وفي (ص218) يذكر أنه استشهد بآية وبثلاثة أبيات ومثل من شعره بثلاثة أخرى، ولست أدري كيف يخرج قول ابن مالك الذي جاء في ساقة كلامه هذا ونقله لنا بنصه، وهو قول ابن مالك "وأنما كثّرت الشواهد في هذه المسألة لأن المخالفين كثيرون"، يفهم من هذا أن ابن مالك يسمي ما يعده الباحث من المثل شواهد. والباحث نفسه قد يسمي مُثُلَ ابن مالك شواهد كما في (ص218) قال "ويلاحظ هنا أن أبياته التي مثّل بها لم تَزدْ في المسألتين عن نصف الشواهد".
وأحسب عمل الباحث عملًا وصفيًّا جيّدًا لو نأى عن محاولة تبرئة ابن مالك من الوضع واكتفى بهذا الوصف المفيد.