✿ قصة من عالم البرزخ ✿♡ رحلة البقاء 2 ♡
الجزء 28
دخلتُ غرفتي بسم الله الرحمن الرحيم...
سبحان الله الذي خلقني وخلقها! إنها جنة صغری داخل مملكة كبرى، لها من الجمال والكمال ما ليس لغيرها من الغرف الأخرى. تجري من تحتها الأنهار من غير أخدود ولا شقوق. تحيرتُ في منابعها ومصباتها، فلا يُعلم من أين تأتي وإلى أين تسير! نهر من ماء غير آسن، ونهر من لبن لم يتغير طعمه، ونهر من خمر لذة للشاربين، ونهر من عسل مصفی، فقلتُ سبحان الله والحمد لله، وهذا أيضا مما وعدني الله به إذ قال: (لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ)..
كان في الغرفة أسرة متعددة من الدر والياقوت، فجلستُ على أحدها فاهتز فرحا مسرورا، وقال مفاخرا بقية الأسرة: هنيئا لي فقد جلس علي ولي الله!
تبسمتُ من كلامه، وقمتُ لاستطلاع ما في الغرفة ولكني تذكرتُ زوجتي التي قال الملك عنها أنها تنتظرني، فأين هي؟
هممتُ بمناداة الملك الحاجب على باب الغرفة الأكبر، وإذا به ينفتح ويدخل النور معه، ليزيد النور على النور. سألتُ الحاجب عن ذلك، فقال:
— إن الملائكة أخبرت زوجتك الحوراء بدخولك القصر، فاستبشرت وتبسمت مسرورة بذلك، وهذا شعاع تبسمها!
قلت:
— سبحان الله! وأين هي الآن؟
— مع وصيفاتها وجواريها، وسوف تأتيك عن قريب بعد أن يكتمل استعدادها للقائك.
زاد شوقي للقائها، ودخلتُ الغرفة منتظرا قدومها. لم يمض وقت طويل حتى أتاني الحاجب يخبرني بأن وصيفات زوجتي يردن الدخول علي، فأذنتُ لهن.
دخلن ونظرتُ لهن، فإذا بهن من الجمال ما لا يوصف، ومن النور ما لا يتحمله أهل الدنيا لو رأوا ذرة من شعاعه. جلسن وتكلمن بكلام عذب يطلبن فيه الأذن لزوجتي بالخروج من خيمتها والقدوم علي!
أعطيتهن الإذن بذلك، وقلتُ في نفسي سبحان الله! إذا كانت وصيفات زوجتي هكذا، فكيف هي؟! وكيف لا أعطي الإذن بقدومها وأنا أكاد أذوب شوقا لرؤيتها؟!
ما أن خرجن حتى أحسستُ بحدوث ضجة في القصر، وما هو الا وقت قصير، وإذا بالذي شغل فكري، وعظم شوقي إليه، يقدم بنفسه..
نعم، أقبلت وحولها وصيفاتها، والاف الخدم والجواري من خلفها، والملائكة تحفها من كل جانب، وتزفها بأعذب النغمات، وأجمل الأنشودات.
وقفتُ أنظر إليها من داخل الغرفة وقد طغى نورها على من حولها. لم أتمكن من رؤيتها حتى تقدمتُ وحدها، ودخلت تاركة ورائها كل من كان معها. دخلت الغرفة بنفسها، وتقدمت خطوات فيها..
كنتُ أنظر إليها، فانشغلتُ بجمالها الساحر عن الكلام معها، وقلتُ سبحان ربي حينما قال: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، ويبدو أنها أيضا بُهرت بجمال وجهي، وشعاع نوري، فراحت تنظر لي نظرة العاشق المشتاق، ليسكن طول حنينها، وعظيم شوقها، ثم تبسمت..
نعم، تبسمت فغمرت الغرفة بضياء تبسمها وطيب ريحها، وبقيتُ أنا كالمبهوت الذاهل من عظيم ما أرى!
كان جمالها وكمالها يسلب الألباب، ويحير العقول، وعيونها واسعة يتلألأ وسط سوادها بريق بياض كاللؤلؤ، ترتدي ثيابا شفافة براقة، تسحر الأبصار بألوانها.
كان صدرها مملوءا بقلائد اللؤلؤ اللماع وأيديها بالحلي الذهبية البراقة التي تعطي ألوانا عجيبة بانعكاساتها، وألحانا مطربة بحركاتها.
أما عطرها فكان يفوح برائحة طيبة كرائحة الورد الأحمر، وعطر ثيابها يتغير بين الحين والأخر مع تغير الوانها، ليعطي انسجاما رائعا مع طرقات الحلي وألحانها.
اقتربتُ منها، وقلتُ لها:
— من أنتِ؟
قالت بصوتها العذب:
— أنا إحدى زوجاتك في الجنة، وأنا من الخالدات اللاتي لا يمتن، والراضيات اللاتي لا يسخطن.
— وهل أنتِ من نساء الدنيا، أم من حور الجنان؟
— أنا من حور العين التي قال الله عنها: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ)، وأنا من اللواتي قال الله عنها: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا)، وأنا من اللواتي خلقهن الله من تراب الجنة، وعطرهن من عطرها.
استأنستُ كثيرا بكلامها، وطربتُ لحديثها، وما أحببت سكوتها، فسألتها:
— ولماذا يُطلق عليكن الحور العين؟
— لتحير العقول في جمالنا.
— ولماذا يُطلق عليكن عُرُبا أترابا؟
— لأننا نحن الوالهات، العاشقات لأزواجنا(1).
تمعنتُ في صفحة وجهها المشرق، فكان كاللؤلؤ المكنون في اشراقته، وكالياقوت في صفائه، فتحير عقلي من جمالها وكمال خلقها، فقلتُ لها:
— لو كنتُ في نشأة الدنيا لما طقتُ النظر إليك لحظة واحدة لعظيم جمالك، واشراقة وجهكِ(2)، بل لو أتيتِ أنتِ إلى عالم الدنيا لطفی نوركِ على نور شمسها، كما يطغى نور الشمس على قمرها فيمحوه، لا بل لو أن ثوبا من ثيابكِ هذه أتي به على أهل الدنيا لانبهروا جميعا منه، ولأغمي عليهم وما تحملوا رؤيته، ولا أطاقوا النظر إليه، فمن أين أتاكِ كل ذلك؟
كانت تستمع لكلامي، وتأنس بأسئلتي منها، وتنظر لي بنظرات العاشق
لمعشوقه، وحينما توقفتُ عن كلامي منتظرا جوابها، قالت:
— ان كل ما تراه من جمال وكمال عندي، أنتَ وهبته لي.
— وكيف ذلك؟
— إن الله تعالى خلقني منذ آلاف السنين، يوم كنتَ أنت في دار الدنيا تقضي عمرك فيه. خلقني الله من أمتناعك عن النظر إلى ما حرم الله عليك من نساء الدنيا امتثالا لأمره، ورغبة في ثوابه، على الرغم من نزغات الشيطان إليك، ووساوسه عليك. في أول خلقي لم أكن بهذه الدرجة من الجمال والكمال الذي تراه الآن، ولكن كلما امتنعتَ عن النظر المحرم، وكلما دمعت عيناكَ في الأسحار من خشية الله، زادني ربي جمالا فوق جمالي، ونورا فوق نوري، فلك الفضل علي أن كنتَ السبب في خروجي من العدم إلى عالم الوجود، ولك المنة علي أن جعلتني بتلك الدرجة الرفيعة، والمرتبة العالية، حتى أن آلاف من الملائكة تخدمني، والوصيفات ترافقني.
سكتت قليلا، وما علقتُ على كلامها منتظرا بقية حديثها، فأردفت قائلة:
— عندما كنتَ تعبد الله وتذكره في الأسحار، كنتُ متعطشة إليك، والهة بك، وكلما كنتَ تدعو الله وتقول: ومن الحور العين فزوجني، كنتُ أقول سبعين مرة: يارب عجل وصالنا.
توقفت عن الكلام تنتظر سؤالا آخر مني، فقلتُ لها:
— وهذا العطر الذي يفوح منك، أي عطر هو؟
ما هو هذا العطر ومن اين اتى.. هذا ما سنرويه لكم غدا..؟
فانتظرونا غدا مع الجزء 29 ان شاءالله تعالى