يُعد “ملتقى الموصل للكتاب” آحد أهم المشاريع الثقافية في العراق، الرامية لإحياء الثقافة والوقوف أمام غوغائية إبادة الكتب والقمع الثقافي، على الرغم مما مرَّ به العراق من أزمات سياسية إلا أن مسيرة الكتب ورسالتها لم تتعطل ونموها وازدهارها لم يتوقف أبدًا.
إبادة الكتب وقمع الشعوب
لطالما كان حرق وتدمير الكتب والمكتبات وسيلة همجية لقمع الشعوب وطمس الحضارات، فعلى مر التاريخ هناك الكثير والكثير من وقائع إبادة الكتب المأساوية، بدءًا من حرق مكتبة الاسكندرية، إثر غزو الجيوش الرومانية لمصر، مرورًا بواقعة محرقة الكتب التي قام بها الحزب النازي الألماني في عهد هتلر، ثم تحول القسم الأكبر من مكتبة بغداد لرماد عقب الغزو الأمريكي، وأخيرًا تدمير مكتبة الموصل على يد جماعة داعش الإرهابية، وعلى الرغم مما مرَّ به العراق من أزمات سياسية إلا أن مسيرة الكتب ورسالتها لم تتعطل ونموها وازدهارها لم يتوقف.
يشتهر العراقيون في العالم العربي بثقافتهم الأدبية وحبهم للقراء والشعر. كانت الموصل في العراق منذ قرون ملتقى الثقافات، وتفتخر بعرضٍ طويلٍ من بائعي الكتب على طول شارع النجيفي الشهير.
لكن في وقت سابق من هذا العقد، طغت على روح التعددية والسلمية في الموصل تطفل على الكراهية والعنف، ففي شهر يونيو من عام 2014، سقطت مدينة الموصل، ثاني أكبر مدن العراق من حيث عدد السكان بعد العاصمة بغداد، في قبضة تنظيم داعش الإرهابي، وما أن وطأت أقدام هؤلاء الرعاع المجرمين أرض المدينة حتى لجأو إلى حرق وتدمير وتخريب وطمس متعمد لكل ما يمس هوية البلاد، عبر تجريدها من ذاكرتها التاريخية والثقافية.
داعش وطمس متعمد للهوية
وبالطبع شأنهم شأن جميع الغزاة، سعت جماعة داعش إلى تدمير وحرق متاحف وجامعات ومكتبات الموصل العامرة بأهم الكتب والمخطوط والصحف والرسائل الفريدة النادرة، ووثائق ومصادر مكتوبة لحضارة هي من أقدم الحضارات في تاريخ البشرية؛ لتخسر العراق والبشرية كلها جزءًا هامًا من الحضارة الإنسانية، بعدما شهدت الموصل أكبر المعارك الحضارية داخل المدن منذ الحرب العالمية الثانية.
ظلّت نكسة الموصل لمدة عامين وأربعة شهور (2014-2017)، كانت مليئة بكل أشكال القمع والظلام ودهم بيئتها الثقافية والحضارية، وبعدها تحررت المدينة من أيادي مغول العصر، ليبعث الأمل من جديد، عندما قامت مبادرة “ملتقى الموصل للكتاب” على يد مجموعة من الشباب المستنير من أجل إنعاش الحياة الثقافية، باعتبارها ركيزة من ركائز بناء مستقبل يعمّه السلام.
ملتقى الموصل للكتاب
هذا، وقد أجرت مجلة أراجيك العربية حوارًا خاص مع المهندس “فهد صباح” القائم على مبادرة ملتقى الموصل للكتاب، شرح لنا فيه كل ما يتعلق بمبادرته ودورها في عودة الأنشطة الثقافية في مدينة الموصل.
في بداية حديثنا معه قدم نفسه قائلًا: “اسمي فهد من الموصل، حاصل على درجة الماجستير في مجال الهندسة الميكانيكية، عملت بشكل تطوعي بعد تحرير الموصل في العديد من الأنشطة الثقافية مثل مهرجانات القراءة، وتوزيع الكتب المجانية، والقيام بحملات تبرع بالكتب للمكتبات التي تم قصفها أو تعرضت للحرق أثناء الحرب”.
وعن تلك الفترة عبر قائلًا: “كنت بوقتها أقوم بأعمال تطوعية ثقافية، بهدف تأسيس مهرجان القراءة الأول للموصل، لدعم المكتبة المركزية لجامعة الموصل وتوجيه دعوة للعالم للتبرع بها، بعدما تم قصفها وتدميرها من قبل داعش، ووقتها كانت تحتوي وقتها على حوالي 700 ألف كتاب، تم إنقاذ 35 ألف كتاب منهم فقط”.
م. فهد الصباح مؤسس ملتقى الموصل للكتاب.
ويكمل المهندس فهد الصباح حديثه لمجلة أراجيك: “كنت وقتها المنسق العام لمهرجان القراءة الأول للموصل، وكان ضمن الفريق عدد من شباب بغداد، ونجحنا في جمع حوالي 16 ألف كتاب، ومنهم تم توزيع عدد 7 آلاف كتاب ما بين روايات ودواوبن شعرية مجانًا على الحضور، والباقي تم تقديمه كهدية لمكتبة جامعة الموصل”.
ثم استطرد: “من هنا كانت نقطة البداية، بعدها قررت في نهاية عام 2017 تأسيس ملتقى ثقافي مع صديقي حارث ياسين، وبالفعل أسسنا ملتقى الكتب Books Forum، وهو مقهى وملتقى ثقافي للكُتَّاب والأدباء والفنانين في نفس الوقت”.
وبسأله عن طبيعة الأنشطة والفعاليات لملتقى الكتب أجاب: “يهدف الملتقى إلى جمع الكتب وتوزيعها، وإقامة الندوات وحفلات التوقيع والأمسيات واللقاءات والعروض الثقافية، بجانب استضافة الأدباء والمثقفين، وعقد النقاشات الثقافية المفتوحة”.
أما عن صدى هذه الأنشطة في التصدي لهمجية إبادة الكتب وطمس الهوية الثقافية للموصل، فقد قال فهد صباح لمجلة أراجيك العربية: “نالت جهودنا دعم منظمة اليونيسكو، هذا فضلًا عن نجاحنا بعد عام من تأسيس الملتقى في عقد المهرجان الثاني للقراءة في الموصل تحت شعار (أنا عراقي.. أنا اقرأ)، وفيه تم جمع 10 آلاف كتاب تم توزيع جزء منها مجانًا على الحضور والباقي تقديمه أيضًا كهدية للمكتبة المركزية لجامعة الموصل”.
وعن المشاركة النسائية في الأنشطة الخاصة بالملتقى أجاب: “قمنا بمشروع ثقافي بالتعاون مع جامعة الموصل وإحدى الجامعات الفرنسية، يهدف إلى عقد ورش عمل في الكتابة والرواية والشعر والمسرح التفاعلي لفتيات ونساء الموصل، لتدعيم المشاركة النسائية في الوسط الثقافي، التي في العادة تكون محدودة جراء الظروف والمحددات الاجتماعية التي تحجب النساء عن حرية الرأي والتعبير، وقد وصل عدد المشاركات إلى 30 كاتبة بين عمر الـ 18 : 30 عامًا”.
ثم تابع قوله عن نتائج ورش عمل النساء المبدعات: “نجحنا في إنتاج كتاب باللغة العربية يحمل عنوان (البيبونات)، بالتعاون مع دار مشكي، ويضم مجموعة من القصص القصيرة للنساء المشاركات بورش الكتابة الأدبية”.
والآن، يجلس الجميع بحماس في مقهى “ملتقى الموصل”، الذي أسسه كل من فهد الصباح وحارث ياسين، وسط المناقشات الثقافية الدائرة عن الأدب وسماع الموسيقى، واثناء إقامة الندوات الثقافية والفنية والفعاليات التاريخية، في مدينة دمرتها الحرب وعرقلتها، مع تفشي وضع اقتصادي متردي ونسبة بطالة عالية، لكن وتيرة إعادة الإعمار تسري فيها بقوة سواعد أبنائها والإيمان بنور العلم والكتاب.
شيماء جابر - أراجيك