إنّ الإعراب سمة من السمات المميّزة للكثير من اللغات القديمة والحديثة، ومنها العربيّة بلا جدال، بل هو سمة كلّ اللغات تقريبا، وذلك بحسب ما تقرّ به الدراسات اللسانيّة الحديثة.
والإعراب وسم في اللغات المعربة، وهو وسم صفريّ في بقيّة اللّغات الأخرى. وهذا الوسم في اللّغات المعربة هو علامة أو قرينة لفظيّة دالّة، في حين أنّه في اللغات غير المعربة موقع أو محلّ إعرابيّ لا يتحوّل ولا يتغيّر، وذلك في نحو ما نجده في أغلب اللغات الهنديّة الأوروبيّة اليوم مثل الأنقليزيّة والفرنسيّة والإيطاليّة وغيرها. وهذا الموقع الإعرابيّ في هذا الصنف من اللّغات يُترجَم بمركّب اسميّ مع مركّب فعلي، على أن تجيء المفاعيل متمّمة، أو مكمّلة للتركيب أو الجملة.
وأمّا بشأن الوسم الإعرابيّ الذي نجده في العربيّة فهو وسم دالّ قد يتحقّق بالحركات أو الحروف، وهو دالّ على معنى الفاعليّة والمفعوليّة، فضلا عن الإضافة، وبه تدرك الدلالات في التركيب أو الجملة، وبه تجد العبارة في اللغة العربيّة مجالا واسعا لتحرّك المكوّنات المباشرة فيها بالتقديم والتأخير والحذف والإضمار.
ولقد ثبت في الاستعمال أن الضمّة هي علامة الفاعليّة، والفتحة علامة المفعوليّة، والكسرة علامة الإضافة. ولهذه العلامات ما ينوبها من نحو أن تكون الواو علامة الرفع مثلا، والياء علامة النصب.
وليس غريبا في هذا الصدد أن نسمع بعض الأصوات التي تُنكر الإعراب في اللغة العربيّة، أو تقلّل من شأنه، بل إنّ بعضهم لا يتوانى في أن يذهب إلى أنّ الإعراب من صنع ونتاج النحاة، وهذا في اعتقادنا محض افتراء، أو جهل لا يغتفر قائم على قراءات سطحيّة لواقع أو حقيقة اللغة العربيّة، أو هو نتاج ضرب من المقارنات والاستنتاجات الضعيفة القائمة بين اللغة العربيّة واللّهجات المحليّة، أو بين اللغة العربيّة وبعض اللغات الأجنبيّة.
وفي محاولة لإثبات صحّة ما نذهب إليه، ودحض الأفكار المخالفة نسوق الملاحظات التالية:
أن الإعراب وجد في كلام العرب، وفي خطبهم وأشعارهم، وفي القرآن الكريم الذي جاء بلسان عربيّ مبين، والحديث النبويّ الشريف. ووجوده في هذه الاستعمالات دليل قطعيّ على أنّه متمّم من متمّمات اللغة العربيّة، ودالّ على فصاحتها وشاهد عليها.
أنّ الإعراب ظاهرة لغويّة ليست حكرا على اللغة العربيّة وحدها، وإنّما نجده، أو نجد بعض آثاره في لغات أخرى كثيرة، وذلك من نحو اللاتينيّة القديمة، والمجريّة والباسكيّة والتركيّة، وبعض اللهجات الألمانيّة الحديثة.
أنّ البحور الشعريّة في الشعر العربيّ قائمة على التفعيلات، والتفعيلات قائمة على الحركات والسكنات، والحركات في آخر الكلمات المعربة علامات إعراب دالّة على المعاني النحويّة.
أن القول بأن الكثير من الناطقين العرب في استعمالهم للّغة العربيّة قد يخفّفون من حالة الإعراب بالنظر إلى كونه ظاهرة صوتيّة، أو أنّهم يشمّوا الإعراب شمّا، فهذا ليس إنكارا للإعراب، بل هو دليل واضح على وجوده، وهناك فرق بين غياب الشيء أو تغييره، أو التخفيف فيه.
لو اقتصر الأمر على أن الوسم الإعرابيّ يتحقّق بالحركات وحدها لكانت قضيّة التخفيف الصوتيّ، والتغافل عن الإعراب أو إسقاطه واردة. بيد أنّ الأمر يتعلّق بالحروف أيضا، وهذه الحروف لا مجال لإسقاطها بأيّ وجه من الوجوه، وبين أن نقول مثلا "ضربَ أخوك" أو أن نقول "ضربَ أخاك"، فالأمر مختلف، والفرق واضح ولا يمكن أن نداريه.
لو كانت العربيّة لغة غير معربة لما أمكننا أن نقدّم أو نؤخّر على الوجه الذي هو شائع في الاستعمال، وتغدو أكثر الأوجه ممكنة، وإن من باب التصوّر أو الافتراض.
أنّ الحديث عن اللغة الشعبيّة التي نجدها في بعض الحالات من نحو ما نجده في كتابات الجاحظ وكتب بعض البلاغيين، والتي تشير إلى لغة عاميّة أو سوقيّة، فهذا لا يتعلّق بالإعراب من عدمه، وإنّما يتعلّق بمستويات أو سجلّات لغويّة، تحدّد مستوى اللغة المستعملة، وذلك في مستوى التراكيب والصيغ والمفردات.
وأخيرا ومن باب الاستخلاص نقول، إنّ الوسم الإعرابيّ ليس ممّا يشين اللّغة العربيّة، أو يقلّل من أهميّتها، وإن بدا استعماله صعبا في بعض الحالات، وعند الكثير من الناطقين بالعربيّة، ولاسيّما في عصرنا الحديث، وإنّما هو ممّا يُضفي على اللّغة جماليّة وموسيقى لا تدركها إلا الأذن الواعيّة. وإنّه ليس من المستحيل، أو من الصعب أن نعلّم أبناءنا العربيّة الفصيحة اليوم، وأن نجعلها اللّغة الأمّ التي تكتسب اكتسابا.
الأستاذ عبد الحميد النوري عبد الواحد