إنَّ اللغةَ هي البيانُ الذي علمه الله للإنسان إذْ خلقه، قال الله تعالى: {الرحمن خلقَ الإنسانَ علَّمَه البيانَ} أي عَلَّم جنس الإنسان الإبانةَ عن المعاني التي يريدها، والتعبيرَ عما في نفسه ليفيدَه غيرَه ويستفيد هو، وبهذا البيان تميز جنس الإنسان عن سائر الحيوان، وذلك أن البيان هو المنطق الذي هو الصلة بين الإنسان وبني جنسه، وبه يُعبِّر عن عقله وتصرفاته وحكمته، فعلمه الله ما ينطق به ويُفهم غيره ما عنده، وفيه إشارة إلى تميزه بالعلم عن غيره.
وتُعَدُّ اللغةُ شَريانَ حياةِ أهلها؛ بما تمدهم به من علوم ومعارف، وباستعمالهم لها في تواصلهم وأنشطتهم في كل مجالات الحياة، وبها يُدونون تاريخهم ومآثرهم، وبها يتصل آخرُهم بأولهم، وباللغة تنطلق الألسن من خرسها وعِيِّها وحَصَرِها، والعقولُ من ركودها، والفِكْرُ من جمودِه، فهي أهم مقومات بناء الأمم وتنميتها، وارتقائها وتطورها، وبناءِ العلاقات بين شعوبها، وهي وعاء العلم والمعرفة.
ومن شأن اللغات التطورُ من حال إلى حال، بتأثير ما يحيط بها من شؤون الحياة، وما يطرأ على مجتمعاتها من عوامل خارجية، أو بيئيةٍ، أو اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية وجغرافية، ونحو ذلك، كما تتطور بتأثير ما يكون لها من خصائص ومقومات داخلية في اللغة نفسها، تتعلق بدلالات ألفاظها، أو بأبنيتها، أو بتراكيبها، أو بمجازاتها وآفاق استعمالها، أو أنظمتها التداولية والخطابية.
وبعد نزول القرآن الكريم تطورت اللغة العربية تطورًا هائلاً، حتى استنارتْ بها الدنيا كلُّها، بما صاحبها من نور الوحي الذي نزل بها، وبما تأيدتْ به من سلطانِ المسلمين وغَلَبتِهم على سائر الأمم، فتفتقت العلوم والمعارف عند أهلها، فأبدعوا فيها وبرعوا في كل فنٍّ، واقتبس منها العالَم فجعلوا يطورون الدراسات في لغاتهم، حتى إذا ضعُف المسلمون وانحسر سلطانُهم، بدأ الضعف يدبّ في جسم اللغة العربية شيئًا فشيئًا، وجعلتْ معاول الهدم تتناولها وتضرب بُنيانها، وتثير عليها القتار، وتتجاذبها وتُهيل عليها التراب من كل صوبٍ، رغبة في طمس معالمها وزعزعتها عن مكانتها، غير أنهم ألفوها قارَّةً رزينةً غير مستكينة، فما فَلَّ حدُّها، ولا انثلم حوضُها؛ لأنها في حِمى القرآن الكريم، والسنة الشريفة، والتراث الإسلامي الزاخر الفاخر، والموروث العربي من الآداب الوافرة الزاهرة النادرة.
ولكن أعداء الإسلام استطاعوا عزل العربية عن المجالات الحيوية المؤثرة في الحضارة الإنسانية، وأهمها المجال العلمي التطبيقي، فحينما هيمنوا على العالَم الإسلامي فرَضُوا لغاتِهم الأعجميةَ في التعليم وشؤون الحياة العامة، واضطهدوا اللغة العربية لأجل أن يتمكنوا من السيطرة على الإنتاج الفكري، فإن اللغة أكبر مؤثر في الفكر الإنساني.