الإعلام هو مرآة المجتمع فإذا أردت أن تتعرف علي شعبٍ ما او علي حقبة معينة من الزمن عليك أن تأخذ جولة في صحفها ومجلاتها وإذاعاتها لتتعرف على ملامحها وتكشف صورتها الكاملة. كما إنها وسيلة ذات تأثير قوي للغاية في صنع الوعي العام للمجتمع وتحديد معايير الذوق وتحريك الرأي العام في قضاياه الخاصة.
وبما أن السينما من أقوي وسائل الإعلام التي لطالما كانت أداة فعّالة في طرح قضايا الساعة، فقد أُستخدمت مادة الإعلام وتأثيرها علي حياة الفرد في ثلاثة مناسبات أراها أنا شخصياً من أفضل الأعمال التي مثلت العقد الذي أُنتجت فيه، وأعطت صورة شاملة عن ثلاث فترات مفصلية في تاريخ وتطور الإعلام.
1- Network
تحفة المخرج سيدني لوميت الخالدة التي أُنتجت في منتصف سبعينيات القرن الماضي الذي شهد تطور هائل في صناعة التلفاز، تناول هذا الفيلم طغوة شبكات الإذاعة المتلفزة علي حياة الفرد في العالم بشكل عام وعلي المجتمع الأمريكي خاصةً، وتوجه تركيزها نحو الترفيه والتسليه ورفع نسب المشاهدة على حساب الحقيقة والذوق والقِيَم لجني الأرباح، فأصبح لفت أنظار المشاهدين وإثارة الجدل هو ما تستند عليه هذه الصناعة ليس في البرامج الترفيهية فقط إنما حتي في البرامج الإخبارية! التي من المفترض ان يكون أساسها هو إطلاع المشاهد علي الحقيقة ورسم صورة لواقع الأحداث في أذهان المشاهدين.
و في ظِل هذه الظروف شهدت السينما هبوطاً في الإنتاج والعائدات بسبب توجه أغلب صناع القصص من كتاب وممثلين ومخرجين إلى التلفاز حيث كانت عائدات الأرواح أكبر وشبه مضمونة مما أدى إلى انخفاض الإنتاج السينمائي، والأخطر من ذلك محاولة استديوهات هوليوود الضخمة التي كانت تحتكر صناعة الأفلام بشكل شبه كامل أن تتبع نفس أساليب التلفاز في الترفيه والكليشهات لإنتاج الأفلام مما جعل هذه الصناعه تفقد روحها وما يميزها ألا وهو الحرية في الإبداع والانطلاق نحو الخيال بلا حدود. هذه البيئة أثارت حفيظة مجموعة من الشباب العاشقين للسينما الذين رأوا أن استمرار هذه الظروف سوف تفسد السينما ولن يتمكنوا من تقديم أفكارهم الجديده والشابّة للعالم، فتحول هؤلاء الشباب لصناعة الأفلام المستقلة ومن هنا شهد هذا العقد جيلاً جديداً من صنّاع السينما الذين رفعوا مستوى السينما العالمية لمستوى جديد وصنعوا السينما التي نعرفها اليوم، وأبرز مخرجي هذا الجيل مارتن سكورسيزي وفرانسيس فورد كوبولا وستيفن سبيلبيرغ وودي آلن ومخرج فيلمنا اليوم سيدني لوميت، أي أنه وبلا شك شهد هذا العقد ثورة سينميائية ضد هذا الفكر السائد.
أحد هذه الأفلام هو فيلم Network الذي يعد من أهم الأفلام التي أُنتجت خلال هذه الثورة السينمائية حيث تناول موضوع صناعة التلفزيون بشكل خاص وهذا يوضح لنا نظرة المخرج لوميت وكاتب السيناريو بادي تشيفاسكي التي بلا شك تمثل نظرة هذا الجيل من صناع السينما للتلفزيون الأمريكي. تبدأ أحداث الفيلم عندما يفقد المذيع التلفزيوني هاوورد بييل صوابه على الهواء مباشرة ويترك قراءة الأخبار للمشاهدين ويبدأ بالحديث عن غضبه الشديد وذعره مما يحدث في العالم بطريقة هستيرية، ولم يكتفِ بهذا فقط بل أعلن على الهواء أنه سينتحر وينهي حياته في الحلقه القادمة!! أثار هذا الحدث الفوضى في الشبكة المذيعة للبرنامج بين زملائه والموظفين ومدراء القناة وأثار الجدل في الشارع الأمريكي، مما أدى إلى ارتفاع نسب المشاهدة إلى أرقام لم تشهدها هذه الشبكة من قبل، الأمر الذي دفع القناة التي كانت على وشك أن تطرده بسبب هبوط نسبة المشاهدة إلى الاستمرار في إذاعة برنامجه ولكن هذه المرة في فقرة خاصة به حيث ينفجر غضبًا علي الهواء ويبدأ في إلقاء الخطب التي تشابه الخطاب التبشيري وينتقد شتى جوانب الحياة وأهمها هو سيطرة التلفزيون على عقول الناس وانفراده بتزويد الشعب الأمريكي بكل ما يعرفه عن العالم.
هذا الظرف الذي خلقه الكاتب بطريقة عبقرية وضع رئيس قسم الأخبار للقناة ماكس شوماخر الذي كل ما يمهمه هو صحة صديقه المذيع هاوورد وحالته العقليه أولاً، خصوصاً أنه ينتمي إلى جيل من الصحفيين المتمسك بمبادئ وأخلاقيات المهنة فوق أي اعتبارات أخرى، حيث يصطدم مع المنتجة الشابة الطموحة ديان كريستينسن التي تنتمي إلى الجيل الذي تربى على التلفاز وبالتالي هي أقل تمسكاً بالأخلاقيات عندما يتعلق الأمر بنسب المشاهدة والأرباح حيث تسعى لاستغلال هاوورد لأقصى حد ممكن لبلوغ أعلى نسبة مشاهدة على حساب صحته النفسية.
أهم ما يميز هذا الفيلم هو السيناريو الصلب للغاية إلى جانب رفعه الستار عما يدور في شبكات التلفزيون وعن أهدافها وأساليبها لجذب المشاهد وإثارة الجدل بعيداً عن أي اهتمام بكل ما هو مفيد ما لم يجلب الأرباح الكافية. كما أنه ينبهنا عن طريق شخصية هاوورد والخطبة الجبارة أنك لو جعلت هذه القنوات هي مصدرك الوحيد للمعلومة ونظرتك للعالم هي بحد ذاتها مصيبة القرن!! كما يصفها هاوورد بيل.
فبلا شك تناول السينما لهذا القطاع من الإعلام في ذلك العقد خصوصاً يجعل فيلم Network أحد أهم أفلام السبعينات.
2- The Trueman show
يأتي إلينا الفيلم The Trueman show في عام 1998 بعد ما يقارب 23 عاماً من فيلم Network حيث استمرت شركات إنتاج البرامج التلفزيونية نفس النمط الذي حذرنا منه هاوورد بيل مما جعلها تصبح أكثر ضخامة وتبتدع طرقاً جديدة لجذب المشاهدين وأصحاب الشركات لتسويق منتجاتهم عبر شبكاتهم التي تعملقت وأصبحت تزن ميزان بعض الدول.
أُصدر هذا الفيلم في نهاية القرن العشرين وكان العالم على مشارف الألفية الجديده ورؤية جديده للعالم من منظار التلفاز الأمريكي الذي شهد تطوراً هائلاً للغاية في برامج تلفاز الواقع التي كسبت شريحة كبيرة من الجمهور الأمريكي خصوصاً التي تقدم محتوي عن الحياة شخصية، هذا الفرع بالذات من تلفاز الواقع جذب كبار منتجي البرامج التلفزيونية لكونه بيئة خصبة لإثارة الجدل ولفت أنظار الجمهور بأقل مجهود إلي جانب أنه يعتبر تربة خصبة للترويج لكافة المنتجات التجارية لرعاية البرنامج، لأنه ببساطة يصور حياة الفرد الخاصة ويعرض لك كافة المنتجات التي يستخدمها من فرشاة الأسنان إلى السيارة؛ فتتحول حياة نجم تلفاز الواقع إلى منصة لعرض كل المنتجات التي تود الشبكة بيعها للمستهلك، ولكي تكون على دارية بقدر ضخامة هذا الفرع من برامج التلفاز أود إخبارك عزيزي القارئ ببعض شخصيات التي قدمت لنا على هذه المنصات مثل كيم كارداشيان وباريس هيلتون ورئيس الولايات المتحدة الحالي دونالد ترامب!!
يعرض لنا فيلم The Trueman show قصة ترومان الموظف التقليدي الأمريكي الذي قد تبدو لك حياته في الوهلة الأولى أنها طبيعيه للغاية إلى أن تكتشف أنها عادية أكثر من لازم أو أنها تتبع نمط ثابت من الأحداث اليومية، حتي يتضح لك أن حياة ترومان ما هي إلا برنامج واقع لديه إقبال جماهيري كبير ويتابعه الجميع في المنازل والمقاهي، والجميع يعلم ذلك بمن فيهم أصدقاؤه وزملاؤه فَهُم طاقم تمثيلي محترف إلا ترومان نفسه فهو بطل هذا البرنامج منذ أن كان طفلاً رضيعاً.
تبدأ سلسلة من الأعطال التقنية ومحاولاته المتكررة للسفر التي دائماً تبوء بالفشل إلى طرح التساؤلات في ذهن ترومان عما يدور حوله، من الجدير بالذكر هو أسلوب صناع البرنامج في منع ترومان من السفر فستري لافتات تحذر من مخاطر السفر في كل مكان يذهب إليه وتزرع فكرة أن لديه رهاب من الماء (الأكوافوبيا) ذلك إلى جانب القيود والواجبات المالية التي تنصب عليه من زوجته والعمل، أنا شخصياً أراه إسقاطاً عبقرياً في أسلوب الإعلام في زراعة الأفكار التي يريدها في أذهان المشاهدين سواء كانت لأغراض تجارية او سياسية (فلو كنت تخطط للسفر منذ مدة ولم توفق حتى الآن أنصحك أن تعيد النظر في تفاصيل حياتك)! وأيضاً أسلوب تقديم شخصيات البرنامج إلى كل المنتجات التي يتم استخدامها خلال الحلقة، هذا الفيلم مليء بهذه الإسقاطات والرمزيات فما هو إلا صورة مجازية لما يحدث في برامج تلفاز الواقع، وأيضاً من الممكن أن تنطبق على حياتنا وبرمجتها من قبل المؤسسات المنتجة الضخمة، في كلتا الحالتين أظن أن هذه الفكرة تم طرحها بصورة أقل ما يقال عنها إنها رائعة.
صدور هذا الفيلم في فترة كانت تنتج فيها هذه البرامج بشكل غزير جداً وقبل أن تصبح عملاقة للغاية وتساهم في تشكيل صورة الألفية الجديدة وبالطبع جودة وعبقرية طرح هذه القضية في الفيلم هو ما جعل هذا الفيلم في نظري من أفضل أفلام التسعينات التي تعطيك الصورة عن حالة الإعلام وقتها.
3- Birdman
فيلم Birdman من إخراج وكتابة المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليز ايناريتو الذي صدر في عام 2014، هذا الفيلم في نظري هو الأفضل في العقد المنصرم لأنه ناقش فكرة تأثير التكنولوجيا على حياتنا وعلى الفن بشكل خاص، الحبكة والسيناريو المتماسك لهذا الفيلم مكّنه من أن يناقش تأثير التكنولجيا علي المجتمع وصناعة الأفلام من عدة مستويات وبالتكنولوجيا أقصد تطور طرق التصوير والجرافيكس والخدع البصرية و أيضاً (السوشيال ميديا)، فيلم birdman يحتاج إلى مقال خاص به لوحده ليتسع الوقت لمناقشته وتحليل عناصره في هذا المقال سأكتفي بتناول جانب طرح تأثير شبكات التواصل الإجتماعي (وسيلة الإعلام الجديدة) على الفن في هذا الفيلم.
كما نعلم جميعاً أهمية شبكات التواصل الإجتماعي في عصرنا الحالي وارتباطها القوي بالمشاهير والترويج للذات فلو كنت نجماً ولا تمتلك أي حساب على منصات السوشيال ميديا فأنت بالنسبة لجمهور هذا عصر تكاد تكون غير مرئي وغير موجود على الساحة بالمرة! هذه هي المعضلة التي تواجه بطل قصتنا ريغان تومسون فهو نجم شباك التذاكر في التسعينات الذي وصل إلى النجومية عن طريق فيلم البطل الخارق birdman وسرعان ما خسر نجوميته عندما رفض أن يقوم بجزء ثالث لهذا الفيلم ليخوض تجارب جديدة كممثل ويوسع آفاقة الفنيه لكنه صدم بقلة العروض التي قدمت له بعد رفضه هذا العرض.
تبدأ أحداث الفيلم بعد عشرين عاماً من هذه الحادثة في كواليس برودواي ومع عزف الطبول التي تشتهر به مدينة نيويورك يظهر لنا ريغان وهو الآن أصبح يعمل على صناعة مسرحيته الجديدة من تأليفه وإخراجه وبطولته، إلا أنه لا يزال يلاحقه شبح نجاحه السابق Birdman الذي ينتقد أعماله باستمرار ويلومه برفض عرض الجزء الثالث ويحدثه بما وصل إليه أبطال أفلام مارفل اليوم من ثروات وشهرة، وينصحه أنه لا يزال هناك أمل لو قرر الالتحاق ببرامج تلفاز الواقع وتصوير مشاكله العائلية مع إبنته وزوجته السابقة لكونها مادة مغرية لجمهور هذا العصر، وهنا يصور لنا اليخاندرو الصراع النفسي الذي يدور في ذهن ريغان بين رغبته في السباحة مع التيار وجني الشهرة والمال والفوز باهتمام الجماهير من جديد وبين أن يقدم عملاً فنياً عظيماً يثبت به قامته الفنية وإيصال رسالته لجمهوره.
كما ذكرت في هذا المقال أن فيلم Birdman تناول عدة قضايا على عدة مستويات، وأهم عنصر مكّن أليخاندرو من بلوغه هذه الغاية هو تنوع أعمار شخصياته وتعاملها مع ظروف هذا العصر فهي بلا شك شخصيات فريدة جداً ومتناقضة في العديد من الجوانب مما خلق حالة من الصراعات والفوضى في كواليس هذه المسرحية التي أدت إلى مجموعة من الأحداث التي وجدت طريقها إلى السوشيال ميديا وأصبحت تريند في فضاء الإنترنت مما أعطى ريغان دعاية مجانية لمسرحيته.
أوضح لنا أليخاندرو العقبات التي تواجه كل فنان أو صانع محتوى في هذا العصر في أن يقدم محتوى ذا قيمة ويكون مهدداً بشكل كبير بالفشل والإهمال من قبل المتابعين أو أن يقدم محتوى هزيلاً لكنه مرغوب و(تريند) يوصله للنجومية وعدد كبير من المتابعين في وقت قصير، ولجوء أغلب صناع المحتوى للخيار الثاني هو ما صعب المهمة على من يريد أن يقدم محتوىً قوياً وهادفاً؛ وأظن أن ما يحاول أليخاندرو إخبارنا به هو أنه لا بأس بخلط الاثنين وأن تستخدم التريند وإثارة الجدل في دعاية لمحتواك ثم تقدم محتوىً ذا قيمة عالية، هذا بالتأكيد من أهم قضايا عصرنا الحالي وأظن أنه يمثل حالة الإعلام في وقتنا هذا.
في الختام عزيزي القارئ هذه هي الأعمال الثلاثة التي أرى أنها تناولت موضوع الإعلام بشكل عبقري للغاية وصدرت في ثلاث أوقات حساسة في تاريخ وتطور الإعلام وعرض تأثيرها على صناع المحتوى والمشاهدين، فإذا أردت التعرف على هذه الفترات أنصحك بمشاهدة هذه الأفلام، وهي بلا شك لا تمثل هجوماً على صناعة الإعلام بل هي نقد لبعض الأساليب التي اتبعتها في الوصول لعقول المشاهدين.
إبراهيم جلال - أراجيك