يعيش الأبناء في ظل آبائهم في الصغر ويتعلمون منهم كيف يسير العالم، يكتسبون منهم الخبرات الحياتيّة في شكل نصائح جاهزة، يعتقد الآباء عند إلقائها أنها ستقف كسد منيع بين أبنائهم ومصاعب الحياة. ربما يبدو الأمر مقبولًا قبل بلوغ مرحلة عمرية معينة، ولكن ماذا إن تحول إلى حياة كاملة وسلطة مطلقة تحيا رهن لها حتى بعد موتهم، ظنًا منك أن ذلك سر راحتهم عند موتهم كما كان سر بهجتهم في حياتهم ؟
يعرض المخرج محمد خان شخصية فيلم خرج ولم يعد الأساسية: شابًا يعمل في إحدى الوظائف الحكومية البسيطة، ويرجو من حياته أمرين: أن يتزوج، وأن يصبح مديرًا عامًا.
بين وصية الأم وتعلُق حياة الشاب الزوجية
يعرض الفيلم في بدايته انصياع عطية بطل الفيلم لوصية والدته، في مشهد حواري بينه وبين جارته المُسنة أثناء غسلها ملابسه وتُقدم له النصيحة بلغة الأم التي تجمع بين النقد اللاذع والحرص على المصلحة.
– ما تبيع التلت فدانين وتستفاد بيهم
– خطيبتي متعرفش حاجة عنهم، أقولها جبت الفلوس منين ؟
-وليه تخبي على خطيبتك ؟
-أمي -الله يرحمها- وصتني مقولهاش علشان متطمعش في ثروتي
يبدو عطية شابًا واضح الأهداف منذ بداية الفيلم، يريد أن يتزوج الفتاة التي خطبتها له أمه منذ سبع سنوات، عملًا بوصيتها كذلك، بغض النظر عن شعوره تجاهها أو رغبته فيها، وعن شعور الفتاة تجاهه أو رغبتها فيه أيضًا. لن يتحقق الزواج سوى بوجود شقة تحتاج إلى تكلفة لا تتوفر لديه إلا إذا اضطر إلى كسر وصيتها الأخرى؛ وهي إبلاغ خطيبته بشأن أرضه في الريف لكي يبيعها. ينتهي الحوار بين عطية وبين جارته بجملة حاسمة تدفعه للعمل بنصيحتها ” أمك لما وصتك الوصية دية، مكنش فيه أزمة إسكان”.
في حالة عطية تبدو الأم حريصة كل الحرص على حياة ابنها، فقد تطوعت لكي تقوم بخطبة فتاة له حتى تضمن استقراره الأسري، وأوصته بألّا يأتي على ذكر ميراثه حفاظًا على ثروته، يدفعنا ذلك إلى سؤال يوضح الأمور، تحت أي فعل يُصنَف ما فعلته الأم بابنها ؟
إذا نظرنا في المعاجم العربية، وبحثنا في أصل كلمة استبداد، تُرَد الكلمة إلى مصدر بدد، فنقول استبد بفلان أي انفرد به، وفي المعجم المحيط نجد بدد أي فرَّق، والتبديد هو التفريق، فاستبداد إنسان بإنسان تحت مسميات مختلفة تعني إضاعة طاقته وتفريقها دون طائل أو فائدة، وهكذا كان بطلنا يحيا حتى قرر الذهاب لبيع أرضه وكانت بادرة التمرد الأولى.
وصية الأب والسعي وراء هدف مُضيع للحياة
بعد تطور الأحداث وتوقف بطلنا عن اللهاث في حياته الضائعة قليلًا، ينظر حوله في الريف جالسًا في حديقة خضراء، وأمامه فتاة وجد نفسه واقعًا في حبها، واصفًا حالته بأنه في الجنة، الجنة التي طُرد منها آدم بعد ارتكابه لخطيئة حُذر من ارتكابها، وهنا يُذكر نفسه أن على الأبناء أن يتعلموا من أخطاء الآباء وألّا يكرروها، فعليه إذًا ألّا يترك حياته الجديدة ويعود إلى عيشه الآلي في القاهرة. في مشهد حواري بينه وبين خيرية -خوخة الفتاة التي وقع في حبه- تعترض على رغبته في العودة إلى القاهرة
- خايف تضيع منك وظيفة صغيرة ومش خايف تضيع منك الجنة ؟
- أنا صحيح موظف صغير دلوقتي بس بعد ٢٠ سنة هبقى مدير عام .
تضحك ساخرة على صوت الحمار الذي تصاعد عند نطقه بهذه الجملة وكأنه يُجيبه معترضًا هو الآخر، يوضح لها أن هذا كان حلم والده الذي مات قبل أن يُحققه فقرر أن يحققه هو بدلًا عنه وأخبره بذلك وهو على فراش الموت.. “
- وأبوك مات مرتاح ؟
- آخر راحة
- ومش حرام هو يموت مرتاح وأنتَ تعيش مش مرتاح.
يبدو حوارًا فاصلًا هو الآخر كالحوار بينه وبين جارته في بداية الفيلم، ولكن لتمرد على حلم والده هذه المرة.
كانت البيئة مُهيئة تمامًا للبطل لرفض عيشه القديم في القاهرة والإلتفات لحياته الجديدة في قرية “العزيزية” في الريف، تلك القرية التي بثت الحياة في أبسط أنشطته التي يؤديها بشكل دوري دون الإلتفات إليها كتناول الطعام.
الفيلم في أعين صناعه
يقول محمد خان أن رسالة الفيلم لا تدعو إلى ترك القاهرة والمدن الكبرى والانتقال إلى الريف، بل أن رسالة الفيلم تدعو الإنسان إلى النظر إلى حياته والبقاء في المكان الذي يُحب دون عقد مقارنات بين أي البيئتين أفضل.
وفي إحدى لقاءات يحى الفخراني [عطية] مع الإعلامية نهال كمال، يقول”.. إن رسالة الفيلم هي بحث المرء عن خلاصه”.
يُعرض الفيلم في إطار مليء بالكوميديا، والبساطة من جميع القائمين عليه، فقد مثلت الفنانة ليلى علوي [خيرية] دور الفلاحة التي تُقدِر حياتها وتعتز بها، حتى عندما استجابت لنصيحة والدتها لإغراء البطل بالزواج منها، تبدو وكأنها دخيلة على الهيئة العامة للفيلم فوجودها في زي أبناء المدينة كان شاذًا على اللوحة الريفية التي رسمها الجميع بإتقان.
يؤدي فريد شوقي [إبراهيم بيه العزايزي] شخصية رجل جال في الحياة وخاض جميع مغامراتها، حتى استقر في قريته البسيطة، ووجد لذته في الطعام.
ينتهي صراع البطل بتمسكه برغبته الحقيقية وتمرده على وصايا والدته أولًا ثم حلم والده بعد ذلك، كل هذا في إطار خالٍ من جوانب الخير والشر المعتاد وجوده في أغلب الأعمال السينمائية، وجو مُفعَم ببساطة الحياة الريفية.
ربما لا يحتاج العمل السينمائي إلى التعقيد دائمًا لعرض أهم القضايا التي تمس حياة الأفراد، لكنه دائمًا يحتاج إلى الصدق فيؤثر في صناعه، ويترك المشاهد في حالة فكرية وبصرية مميزة، وقد كان الفيلم أحد هذه التجارب.
أميرة أمين - أراجيك