بعد انطفاء شعلة رينيه زيلويغير (Renee Zellweger) في الساحة الفنية لبضع سنوات، اكتسحت موسم الجوائز من جديد لتحصد أغلب الجوائز المهمة لسنة 2019 عن دورها في فلم السيرة الذاتية جودي Judy حيث أدت دور الأيقونة التي لا يزال نجمها ساطعًا حتى بعد مضي أكثر من 50 سنة على وفاتها -الروح التي حُكِم عليها دومًا بالعذاب والوحدة- جودي غارلاند (Judy Garland).
الحكاية
يتبع الفيلم قصة جودي غارلاند أثناء الشهور الأخيرة المتبقية من حياتها، حين كانت لا تزال تقدم عروضًا في مدينة لندن وتقاتل للحفاظ على حضانة أولادها ضد زوجها الثالث سيدني لافت (Sidney Luft)، إلى جانب بعض اللقطات التي تعيدنا إلى حياة غارلاند الطفلة أثناء عملها لدى شركة الإنتاج الضخمة إم جي إم (ميترو جولدن ماير).
مراجعة مختصرة لفيلم Judy
لا يمكننا الحكم على الفلم برمته بالسوء، فهو على الرغم من ظلمه الكبير لشخص جودي غارلاند إلا أنه ما زال يحوي بعض العناصر الإيجابية، منها أنه لم يتم تحوير الكثير من الحقائق عن الفترة التي قدمها الفلم من حياة غارلاند، كما أن الديكور والأزياء كانا في غاية الروعة والدقة وأديا إلى تشكيل لقطات جميلة جدًا داخل الفلم.
لكن عدا عن ذلك، اتسم النص بضعف شديد حتى وصل إلى حدّ الابتذال في بعض الأماكن. ولكن الخطأ الكتابي الكبير الذي ارتكبه صناع الفلم هو أنهم قطعوا علينا نحن المشاهدين رؤية هذه الشخصية عندما كانت في أيام عزّها متربعة على عرش شباك التذاكر بين أقرانها من الممثلين والممثلات الذين زادوها عمرًا وجمالًا ولكن ليس موهبة.
لم يتسنى لنا رؤية ذلك الجانب الساحر الذي لا يقاوم من شخصية جودي غارلاند والذي كان السبب وراء استمرار الناس بتوظيفها بعد أن التصقت بها صفة “لا يمكن الاعتماد عليها” تبعًا لمشاكلها مع الإدمان وحالتها النفسية المتردية.
عوضًا عن ذلك، فقد رأينا الجانب الضعيف المثير للشفقة منها وتلك الطفلة التي تم اضطهادها واستغلالها من قبل شركة إم جي إم مذ أن وقّعت عقدها السام معهم في عمر الـ 13. يرجع هذا لمسببين، الأول هو الكتابة بحد ذاتها، والثاني هو أداء بطلة الفلم التي لم تلق سوى المديح الكبير من النقاد.
أداء رينيه زيلويغر
نجحت زيلويغر في التقاط بعض من خصال شخصية جودي غارلاند بالنسبة لطريقة كلامها وطريقة مشيها وبعض الحركات التي تكررها غارلاند أثناء تقديمها للعروض.
ولكن جلّ ما التقطته وجسدته يقع في دائرة التقليد العام البعيد عن التفاصيل والدقة. فقد بالغت في حنية ظهرها وتكرار بعض حركات وجهها.
وفي الجهة الأخرى هنالك الكثير من الحركات المشهورة التي تكررها غارلاند ولكن أغفلت زيلويغر عنها تمامًا. والأهم من ذلك كله هو إغفالها عن حقيقة أن غارلاند كانت غالبًا ما تتلعثم في كلامها. ولكن لنكن عادلين: لم يكن بحوزة زيلويغر نص جيد ليساعدها على تجسيد هذه الشخصية المعقدة والمليئة بالتناقضات.
قدمت لنا زيلويغر شخصية ضعيفة مكسورة لا تملك ذرّة من الكاريزما التي حملت اسم جودي غارلاند طوال سنين عملها بعد أن طردتها شركة إم جي إم. لكن زيلويغر تبقى معذورة إلى حد ما، فهذه الكاريزما يصعب جدًا التقاطها لكونها خاصة ومميزة ومتعلقة بشكل كبير بهوية جودي غارلاند.
وصفها زوجها الثالث لغارلاند بالآتي: “إن كنت تعرف جودي فسيصعب عليك جدًا ألا تقع مباشرة في حبها. فقد كانت ساحرة لتلك الدرجة. كانت مرحة لتلك الدرجة. كانت أكثر مخلوق غير اعتيادي صادفته وسوف أصدفه في حياتي كلها. لن يكون هنالك أبدًا نظير لجودي”.
الخطأ الفادح
لعل أكبر خطأ تم ارتكابه من قبل صناع الفلم هو أنهم سمحوا لزيلويغر بتأدية الأغاني بصوتها. هذا لا يعني أن صوتها سيئ جدًا وغير محمول، كلا فصوتها مقبول وجيد حتى. لكنها ليست بجودي غارلاند.
ليست مبالغة القول بأن حياة غارلاند قد تمحورت بشكل أساسي حول صوتها القوي. فيفترض أن يصاب الناس بالدهشة وتظهر علامات الانبهار على أوجههم لدى سماع صوتها. كان ما يميزها في الحقيقة هو قدرتها على التعبير عن المشاعر من خلال غنائها. إنها موهبة يصعب اكتسابها وهي كانت تمتلكها مذ كانت تبلغ من العمر بضع سنوات فحسب.
وحتى في سنواتها الأخيرة وبعد محاولة انتحار قطعت فيها حلقها وضرّت حبالها الصوتية، كان ما يزال صوتها مميزًا يصدح عاليًا في محاولة تصارع فيها لتغني بشكل سليم. فعندما ظهرت زيلويغر على خشبة المسرح وغنت بصوتها المقبول، ضاع صوت جودي غارلاند المميز وضاع معه أثره.
في نهاية الأمر لا يمكننا وصف الفلم بالسيئ ولكنه أيضًا ليس بالجيّد. يمكننا القول إنه ليس سوى فلمًا مراده الأساسي هو أن تحصد بطلته جائزة الأوسكار، وأن يناقش أحوال أولئك الناس المختلفين في المجتمع وكيف يتم نبذهم خارجه، لكن بطريقة للأسف كانت سطحية ومبتذلة جدًا.
لم علينا تذكر جودي غارلاند بعد كل هذا الوقت ؟
سطع نجم غارلاند في وقت لم يكن أحد يغني مثلها. كانت تجسيدًا لصوت حديث وتجسيدًا لغناء الجاز الذي كان يعاكس تمامًا أصوات السوبرانو اللطيفة التي كانت منتشرة حينها. كانت مختلفة عن بقية الممثلات صاحبات الجمال الخارق اللواتي كنّ زميلاتها في إم جي إم حينها مثل هيدي لامار (Hedy Lamarr) ولانا تيرنر (Lana Turner).
إلى جانب قدراتها الغنائية، كانت تستطيع مجاراة أمثال فريد أستير (Fred Astaire) وجين كيلي (Gene Kelly) في الرقص، وتقديم شخصيات درامية ترشحت بسببها مرتين لجائزة الأوسكار. كانت تمتلك القدرة على القيام بكل شيء.
وعلى الرغم من حياتها المليئة بالتعاسة والظلم والاستغلال إلا أنها استطاعت أن تقدم أداءات ساحرة على مدى السنين الطوال التي عملت فيها. كانت حياتها عبارة عن اضطهاد مستمر ابتداءً بأمها وانتقالًا إلى لوي بي ماير (Louis B Mayer) في شركة إم جي إم وصولًا إلى زوجها سيدني لافت وحتى مماتها. كان جميع من حولها يتحكم بما تأكل وبمن تحب وما تفعل وبصورتها أمام الجمهور.
وبعد أن حولتها شركة إم جي إم إلى آلة مدمنة للمخدرات، التي كانوا يجبرونها على تعاطيها عوضًا عن تناول الطعام، قاموا بفسخ عقدهم معها لأنه لم يعد بالإمكان الاعتماد عليها. وبدأت غارلاند تترامى بين أيادي مديري أعمالها ككرة يلعبون بها، حيث غالبًا ما كانوا ينصبون عليها ليأخذوا أكثر من حصتهم العادلة وتبقى هي دون مال.
قالت غارلاند في أحد تسجيلاتها الخاصة في أواخر عمرها الآتي: “لا أعرف قراءة النوطات الموسيقية. لا أستطيع قراءة الموسيقا. ولكن هذه قصة حياتي: أسير مع التيار حتى إن لم أكن أعرف ما يحدث حولي. أستمرّ بالكلام والغناء والابتسام والتسجيل”.
أعتقد أن من استطاع تحمل ذلك كله بل وأكثر بكثير، واستطاع رغم كل ظروفه أن يقدم فنًا يرسم الابتسامة على أوجه من رآه ويحافظ على شخصيته الساحرة ويكون علامة فارقة في مجتمعه ورمزًا لكل أولئك المختلفين والمنبوذين، هو شخص يستحق أن تتخلد ذكراه ويستحق أن تستمر الأجيال القادمة بالتكلم عنه.
حسناء محمود - أراجيك