✿ قصة من عالم البرزخ ✿♡ رحلة البقاء 2 ♡
الجزء 26
انتهى الحفل فذهبنا نخطو في مفترق الجنان، في رياض الزعفران، وبين كثبان المسك التي تفوح منها رائحة وأي رائحة؛ يُقال لها مسك، ولكن أين هي ومسك عالم الدنيا!
لم يشغلني ذلك النعيم عن والدتي، فالتفتُ إلى هدى، وقلتُ لها:
— إن أمي بحاجة إلى شفاعتنا، وقد تركتها في عقبة صلة الرحم تتلوى ألما، وتحترق حسرة، ولا أظن أنها خرجت منها حتى الآن، كما إني طلبتُ من الملائكة الشفاعة لها، ولكنهم أخبروني بعدم تمكني من ذلك لأن درجتي ضعيفة لا تسمح لي بالشفاعة لأمثالها.
أجابتني هدى، وقالت:
— صحيح ما قالوا، فأمثالنا في المقام لا يستطيع ذلك، لذا علينا التوسل بأصحاب المقامات العالية.
— وهل تعنين أحدا في كلامك ياهدى؟
— نعم، إن والدتي كانت دائما تطلب
الشفاعة في دنياها من الحسين(سلام الله عليه) أجل، كانت تبكي كثيرا عندما كنتُ أقرا لها زيارة عاشوراء، وخصوصا عند المقطع الذي يقول: (اللهم ارزقني شفاعة الحسين يوم الورود، وثبت لي قدم صدق عندك مع الحسين وأصحاب الحسين الذين بذلوا مهجهم دون الحسين(ع))(1)، ونحن الآن في يوم الورود على الله، أليس كذلك ياسعيد؟
— آه، صحيح جدا ما قلتيه، ودليل صدق نيتها بكائها. كما إنني علمتُ منها مرات عديدة أن قصدها من زيارة الحسين، وإقامة مجالس العزاء عليه، إنما كان للقربى من الله لا لشيء أخر، وكانت ترفض الافتراءات الدخيلة على نهضته وعلى أصحابه في مجالسها التي تقيمها.
أطرقتُ قليلا، ثم أردفتُ قائلا لها:
— عزيزتي هدى، اتركي هذا الأمر لي واذهبي إلى جنتك التي أعدها الله لك، اذهبي فكل ما عملتِ في الدنيا من خير ينتظركِ الآن وقد تجسم بشكل قصور جذابة، وبساتين خلابة، وخدم من الجواري والولدان المخلدين، الذين وصفهم الله تعالى في قرآنه كأنهم لؤلؤ مكنون.
عزيزتي: إني مسرور جدا لكِ، وسوف أزوركِ عن قريب في جنتك، ولعله مع والدتنا إن شاء الله لنا ذلك.
فارقتها بعد أن اجتمعت وصيفاتها حولها ليقودنها إلى جنتها، أما أنا فبقيتُ عند مفترق الجنان، وكان كل شيء يخطر على قلبي، وتشتهيه نفسي، يأتيني من فوره قبل أن أطلبة. سألتُ عملي الصالح عن الطريق إلى طلب شفاعة الحسين لوالدتي، فذهب سريعا ثم عاد ومعه ملك في غاية الجمال، وقال لي أسأله بما تشاء، فسالته:
— كيف الطريق إلى نيل شفاعة الحسين لوالدتي، أريدها أن تلحق بنا.
أطرق قليلا، ثم قال:
— هل تعني الحسين ابن فاطمة بنت خاتم الأنبياء؟
— نعم.
نظر الملك لما حوله ثم توجه لي، وقال:
— هل ترى اشراقات هذه الجنان؟ وهل ترى النور الذي يسطع من الحور والجواري والولدان؟ وهل ترى البساتين الخضرة وثمارها الجذابة؟ وهل تشم روائح الورود العطرة؟ وهل تسمع أغاريد طيور الجنة ونغماتها؟ وهل تسمع صوت جريان أنهارها؟
توقف عن الكلام، وتعجبتُ من أسئلته وماذا يقصد منها، فأجبته:
— نعم أسمع وأرى.
استأنف كلامه، وقال:
— إن كل ما ذكرته لك قد خلقه الله تعالی من نور الحسين، وجماله من جمال الحسين(2)، فالجنان أشرقت بأشراقته، وأضاءت من ضياءه.
سكت قليلا ليرى أثر كلامه، ولكنه فوجيء عندما قلتُ له:
— إني أعلم ذلك كله، إذ أخبرنا به نبينا محمد(ص)، وقال لنا أيضا أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، كما إني أعلم أن للحسين درجات في الجنة ما نالها إلا بشهادته.
أطرق الملك قليلا، ثم قال:
— إذن أنت تعلم ذلك، وتعلم بعظم مقامه وعلو درجته، ولهذا تطلب الشفاعة منه.
— نعم، إن والدتي من الصعب إخراجها من مأزقها الذي وقعت فيه إلا بشفاعة أصحاب المقامات العالية عند الله، وبما أنها كانت تطلب شفاعة الحسين وهي في الدنيا، وكانت تطلب القربى من الله بزيارته والبكاء عليه، فلا أظنه يتركها في الآخرة وهي بأشد الحاجة إليه، ولا أن الله يرفض شفاعته فيها.
أحسستُ بإضاءة نور أمل لنجاة والدتي بعد جريان الحديث بيني وبين الملك، مما دعاني إلى التقدم أكثر في مهمتي، والإصرار عليها، لذا سألته عن كيفية الوصول إلى الحسين والتحدث معه، فقال:
— إن قوانين الأخرة ليست كقوانين عالم الدنيا الذي كان مقيدا بالزمان والمكان، فلا يحتاج أن تذهب إليه حتى تتحدث معه، لقد كنت تزوره في الدنيا من على بُعد في المكان منه، وتعتقد أنه يسمع كلامك، ويرد جواب سلامك، فكيف وأنت الآن في عالم الأخرة؟
لم يكد حديثنا ينتهي حتى قدم علينا ملك ساطع نوره، عظيم بهائه وجماله، اقترب منا، ويبدو منه أنه قادم من الجنان العالية، إذ كان أعلى درجة من بقية أصناف الملائكة. ومما دل على ذلك قيام جميع الملائكة من حولي، وأدائهم الاحترام إليه. سلم علينا، ثم توجه نحوي، وقال:
— ان الحسين سيد شباب جنان الخلد يبلغك السلام مع كل إخوانك المؤمنين الذين وردوا حديثا إلى جنانهم، ويريد زيارتكم عن قريب، فهل ترغب في ذلك؟
طرتُ فرحا وسرورا حينما علمتُ أن مولاي يرغب بزيارتنا، ولم أكن أصدق ذلك لولا علمي بأن عالم القيامة هو عالم الحقيقة المطلقة، وليس فيه نوم ولا حلم ولا خيال، لذا جمعتُ أمري، وقلتُ له:
— كيف لا أرغب في لقاء مولاي الحسين، وقد كنتُ أذرف الدموع شوقا لزيارة قبره، فكيف والآن يدعوني للقاء شخصه. أخبره أني سأكون أول من يستقبله، وأخبره أن سعادتي ليس بجنتي التي سوف أدخلها، ولا بالنعيم الذي فيها، ولا بالأنهار التي تجري من تحتها، بل إن سعادتي بلقائه، والنظر إلى جمال وجهه.
كان الملك يمعن النظر في وجهي، ويصغي لقولي، وعندما توقفتُ عن الكلام، قال:
— إذن أذهب وادخل جنتك، وحشد ما لديك فيها لاستقبال مولاك...
أرسلتُ عملي الصالح لاستطلاع الأوضاع، وتهيئة أمر دخول جنتي، فمكث غير بعيد ثم جاءني مع جمع عظيم من الملائكة وقال:
— ان كل شيء حاضر ومهيأ، وآلاف من الملائكة والخدم والجواري والحور بانتظار قدومك إلى مملكتك، وقد طلب مني كبارهم المجيء معي ليكونوا من أوائل المستقبلين، ويرافقوك في أول دخولك جنتك.
قلتُ له مستعظما قوله:
— أحقا ما تقول؟ ومن أكون أنا حتى يعطيني ربي كل هذه الكرامة من عنده ؟!
صمت قليلا، ثم قال:
— (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا)، وأنت من المتقين ياسعيد.
ودخلتُ جنتي..
ماذا اعد لسعيد من جنان.. هذا ما سنرويه لكم غدا..؟
فانتظرونا غدا مع الجزء 27 ان شاءالله تعالى