الخطابُ الحِجاجي يعتمد على الأدوات اللغويّة والأساليب البلاغيّة من أجل بيان المَعْنى المُطابق لمَقاصد المتكلم والمُراد تبليغه للمُخاطَبِ وإقْناعُه به، أي من أجل أداء وظيفةٍ إقناعيّةٍ استدلاليّةٍ، وهي تغيير وجهةِ النّظرِ لدى المُخاطَب وحمله على التّحوّل عن موقفِه.
ونجدُ للكلمةِ المُفردَة نفسِها حَمولةً حِجاجيّةً أو طاقةً حِجاجيّةً عندَما نُدرِكُ أنّ مَعْناها في الأصلِ زيدَ عليْه مَعْنى آخَر أو قيدٌ شرعيٌّ أو أخرِجَ من حَقيقةٍ إلى مَجازٍ أو نُقِلَ من نَسَقٍ عَقَديّ إلى نَسَق عَقديّ مُناقضٍ... فقَد جاءَ القُرآنُ الكريمُ بجملةٍ من الألفاظِ المعجميّةِ المتداوَلَة سابقاً ليبنِيَ عليْها مَعانيَ غير مُتداوَلَةٍ، ويبني مَجْهولاً جديداً على مَعْلومٍ سابقٍ.
ولا نُدركُ الحَمولةَ الحجاجيّةَ للكلمةِ إلاّ بمُناسبتِها لسياقِها الذي ورَدت فيه واستحْقاقِها مَكانَها دون غيرِها مما قارَبَها من الألفاظِ المعجميّةِ أو العبارات. وهذه الحرَكَة الكامنة في الكلمَة هي التي سَمّاها د.عبد الله صولَة بحرَكَة الكلمة الحِجاجيّة [انظر: الحِجاج في القُرآن من خلال أهم مظاهره الأسلوبيّة، ط.2، بيروت، 2006م، ص 169، وحرَكَة الكلمة الحِجاجيّة حرَكَةٌ قائمةٌ في الكلمةِ بناءً على ما سَمّاه هرمان باريه بالتَّداوليّة المُدمَجَة (Pragmatique integrée) انظر كتابَه: تلوين الخطاب، ترجمة صابر الحباشة، الدار المتوسطية للنشر، تونس، 2007، ص:179...، وكذلك كتاب: محاولات في تَحليل الخطاب، صابر الحباشة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1430-2009، ص:135]
***
القيمةُ الحِجاجيّةُ لقوله تَعالى : «أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ» [آل عمران:20] تلقينٌ عام شامل، ليواجه به النبي - صلى الله عليه وسلم - كل المخالفين له في العقيدة . إن حاجَّك: يا محمد، النفرُ من نصارى أهل نجران قَدِموا المدينةَ للمحاجَّة. وظاهر المحاجّ فيه (المُحاجَجَ فيه) أنه دين الإسلام، لأنه السابق . وجواب الشرط هو : { فقل أسلمت وجهي لله }في أمر عيسى صلوات الله عليه، وجادَلوكَ في أمر التّوحيدِ، وخاصموك بالباطل. وقد يَعودُ الضميرُ على جميع الناس ، لقوله بعد {وقل للذين أوتوا الكتاب والأمّيين} انقدت لله وحده بلساني وقلبي وجميع جوارحي. وإنما خَصّ جَلَّ ذكرُه بأمره بأن يقول:"أسلمت وجهي لله"، لأن الوجه أكرمُ جوارح ابن آدم عليه، وفيه بهاؤه وتعظيمه، فإذا خضع وجهه لشيء، فقد خضع له الذي هو دونه في الكرامة عليه من جوارح بدنه. وأسلم مَن تبعني على ديني، يقول كمقالتي.
لَقَّنَ الله سُبحانَه وتعالى نَبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يدرج من اتبعه -في إسلامه- وجهه لله ليكونَ إسلامهم بإسلام نبيهم صلى الله عليه وسلم لا بإسلام أنفسهم ، لتلحق التابعة من الأمة بالأئمة، فيما أوتوه من الانقياد وبراءتهم من الرجوع إلى أنفسهم في أمر الدين، كما كانوا يقولون عند كل ناشئة علم أو أمر: الله ورسوله أعلم ، فمن دخل برأيه في أمر نقص حظه من الاتباع بحسب استبداده. فقال تعالى عاطفاً على الضمير المرفوع المتصل لأجل الفعل: {ومَن} أي وأسلم مَن اتَّبَعَني وأتْبَعوا وُجوهَهم له سبحانه وتعالى . وللمفسّرين في المراد من هذا القول طرائق؛ إحداها أنّه متاركة وإعْراض عن المجادلة أي اعترفت بأن لا قدرة لي على أن أزيدكم بياناً، أي أنّي أتيت بمنتهى المقدور من الحجّة فلم تقتنعوا، فإذ لم يُقنعْكم ذلك فلا فائدة في الزيادة من الأدلة النظرية، فليست محاجّتكم إياي إلاّ مكابرة وإنكاراً للبديهيات قال فخر الدّين الرّازي: فإن المُحِقّ إذا ابتُلي بالمُبْطل اللَّجوج فليقُلْ: أمّا أنا فمنقاد إلى الحق.
وعلى هذا الوجه تكون إفادة قطع المجادلة بجملة: {أسلمت وجهي لله ومن اتّبعن} وقوله: {أأسلمتم} دون أن يقال: فأعرض عنهم وقُل سلام، ضَرْباً من الإدماج؛ إذ أدمج في قطع المجادلة إعادةَ الدعوة إلى الإسلام، بإظهار الفرق بين الدينين.
***
يتبيَّنُ من مَعْنى الآيَة أنّ القيمةَ الحِجاجيّةَ لعبارة «فقُلْ أسلمْتُ وجهي لله ومَن اتَّبَعنِ» تختزلُ مراحلَ كثيرةً وتطوي جدالاً لا فائدةَ فيه، فبدلاً أن يُبادلَهُم مُحاجَّةً بمُحاجَّةٍ أمِرَ بقطع دابر الجدالِ؛ لأنّه عُلم علمَ اليقينِ أنّ المحاجَّةَ لن تُفضيَ إلى نتيجةٍ، وكأنَّ معرفةَ المَقاصد وأحوالِ المتكلمينَ المُحاجّينَ تَقْضي بمُتاركتهِم والإعراضِ عن مُجادلتهم وليس عنهم.