بعد ليلة طويلة .. استيقظت بعد اغفاءة قبيل الفجر وعينيها حمراء مغرورقة بالدموع. . نزلت لباحة المنزل بخطى متثاقلة بالهموم، منحنية الرأس مكسورة الجناح مسلوبة الرغبة للحياة.
افترشت السجادة أرضاً وعينيها المنهكة تحدق نحو الباب بقلق.. بعد أن توضأت بصمت محكم لصرخة تدور بين جنبيها وهي تتمتم بعبارات الاستغفار لتلتمس العفو من الخالق سبحانه وتعالى عما يدور بخوالجها.. ارتدت حلتها البيضاء وبين اناملها مسبحة عتيقة من العقيق... خرت ساجدة تنتظر صوت المؤذن لوقت الصلاة وهي ترتجف لفكرة الفقد.. لترفع ذراعيها نحو السماء باكية كما طفلة اضاعت يد والدتها في زحمة الناس... وها هي تهفو تعانق الارض بين شهيق منتحب وزفير يائس تدعو لوحيدها " يارب العالمين يا إلهي يا مجيب دعوة المضطرين أسألك بأسمك الواحد الأحد أن ترجع لي فلذة كبدي سالما غانما محصنا من كل شر بأسمك العظيم الأعظم يا ذا العزة والجبروت، إلهي بحق كل من ناداك ودعاك في البر والبحر استجب لقلب أم اضناه التعب وانهكته ليالي الصبر وسرقت أجمل أيامه وزهوة شبابه شقاوة الحياة، أذ اني لم أكن ربي لك عاصية ولا لغيرك داعية،أستجب لي ورد لهفتي بقرة عيني وثمرة فؤادي فقد نفذ مني الصبر الجميل لتربيته وما عاد صغيرا لاتحمل اوزاره كل مرة، يا ذا الجلال والإكرام أمنحه من عطاياك أفضلها ولا تحرمه نعمة الهداية، إلهي وسيدي ومولاي قلبي الشغوف لكلمة عذبه من شفتيه يدعوك لترأف بحاله وتبعد عنه سلاطين الجهل وصحبة السوء ،إلهي لا تحاسبه بما بدر منه رغم انها من كبائر الآثام عصيان الوالدين و ذكرت في كتابك الكريم ان بسم الله الرحمن الرحيم (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) واجعل ذريته من الصالحين المصلحين" وبينما هي على هذه الحال تشجب وتنتحب للخالق
دخل ولدها السكير وعيناه تقدح شراً بعد خسارة فادحة بين رهانات الملاعب الساهرة في مجالس أهل المعصية
وهو يتمتم اغنيه قديمة ويترنح حتى انزلقت قدمه من آخر درجة للباب وسرعان ما تحول إلى وحش ثائر، هائج
يسب ويلعن والديه وكل من ساهم في انجابه للحياة
"أما زلتِ تؤمنين به! ادعي علي لعل دعاءك ينقذني من حياتي البائسة، ادعي عليَّ لعله الخلاص من دنيا الخديعة، مابكِ تأنين وتلبسين ثوب النواح الا يكفي اننا ساكني القبور! إلا يخطر في بالك يوما أنكِ تتعلقين بالموتى أكثر من الحياة نفسها؟ انها الأرض الملعونة اصابتكِ في عقلك فأحببتِ البكاء واللطم على العيش والاستمتاع بلذة الحياة" ارتفع صوت الأذان حينها (الله أكبر الله أكبر ٢... اشهد ان لا إله إلا الله ٢... اشهد ان محمد رسول الله ٢.....) حتى أتم الأذان استسلم للنوم وهو مطروح الأرض، ما إن أكملت صلاتها حتى رفعت رأسه ووسدته بين احضانها تداعب رأسه بعذوبة وهي تبكي بمرارة، تتسائل بينها وبين نفسها "كيف لا يا ولدي، كيف لك أن لا تتغير وحالنا كل يوم للاسوء، كيف لا وكبيرنا يستضعف الصغير، والقوي يأكل الضعيف، والشجاعة أصبحت طلقة موت في قلب صاحبها، ماذا أقول وما لي أن أفعل؟ كيف تفهم ان علاقتنا بالله أنقى واصفى من شوائب الدنيا الفانيه، أتراك ستدرك أن كل شيء سينتهي في يوما ما ولن يتبقى الا عملك الصالح،
لا تحزن إذا تغيرت حال الدنيا بل أحزن إذا ابتعدت عن الحق، فالقلوب المطمئنة عامرة بحب الخالق مهما حدث ومهما جرى سيزول حتما ذلك الألم في داخلك ما إن توجهت للقوى العزيز فهو ناصر لمن لا ناصر له، عسى أن تفهم اننا نعاني من سوء الخلق وليس من امتحان الله "
عندها رفع يديها عن جبينه متأثرا بكلامها والدموع تنسكب " امي ارجوكِ اصمتِ... ما زلتِ اسيرة لأفكار هذه المدينه " هنا ساد الصمت... هي لا تجد ما يهديه لايمانها، وهو لا يجد طريقة لتفهمه!
محاورة بين جيل الأمس المعتكف للعبادة والاستغاثه حين البلاء ، وجيل اليوم المنفرد بالاشتهاء وعيش ملذات الحياة ومصارعة الباطل .
وبين الفكرتين ما زالت شاردة تلك المعاني السامية للإيمان بحقوق الفرد بطاعة الله وعيش الحياة
لكن الجهل المغيم على مشايخ تلك المدينه أدى لنفور جيل اليوم منها... فباتت تلك الأرض مقفرة، حزينه، شاحبة، مقبرة لاجساد أبناءها و أفكار ضحاياها،
إنها وبأختصار (أرض التعصب) .
قصة حقيقية