✿ قصة من عالم البرزخ ✿♡ رحلة البقاء 2 ♡
الجزء 21
اشتد لهيبها وكأنها غضبت من كلامي، ثم قالت:
— هي الغفلة ياشقي، هي الغفلة.
قالت ذلك وارتفع شهيقها، وقفزت نحو قدمي، فصرختُ ألما من حرارتها، وناديتُ بأعلى صوتي: لا، لا تحرقي قدمي، لا تحرقها..
لم تسمع ندائي، ولم ترحم صراخي، فلصقت بهما حتى احترق جلديهما، وراحت تتوغل في أحشائهما و عظامهما..
العجب كل العجب أني سمعتُ شخصا بجنبي قد أخذته النار إلى فخذيه يحسدني على حالي، ويقول لي: ليتني كنتُ مثلك، ليت النار لم تحرق إلا قدمي!
أرادت النار أن تأخذ وجوه بعض من في الوادي، فصاح بها مالك:
— لا تحرقي جباههم، فلطالما سجدوا للرحمن عليها، ولا تحرقي قلوبهم، فلطالما عطشوا في شهر رمضان، ولا تحرقي لهم السنة فلطالما تلوا بها القرآن.
أنفذ الله حكمه فينا، وبقينا على هذه الحالة ما شاء الله لنا من المدة الطويلة. وبرغم تلك الآلام العظيمة، والمصيبة الجسيمة، وشدة الزحام وضيق المكان، وبرغم صراخ المعذبين، وصياح المحترقين، وجدتُ لي موضع جلوس في الوادي، فجلستُ للتفكير والدعاء للجبار، وقلت في نفسي: أليس كل عمل في الدنيا يظهر باطنه هنا، فأين بواطن دعائي في ليالي الجمعة؟ أين مناجاتي بدعاء الجوشن الكبير في ليالي القدر؟ وأين تجسمات دموعي خوفا من ناره وطمعا في جنته؟
ما إن تذكرتُ ذلك حتى طرق فكري جُمل من دعاء كميل، ووجدتُ في نفسي القدرة على مناجاة ربي ودعائه، فناديته بأقدام محترقة، ودموع جارية: (يا الهي وسيدي وربي، أتراك معذبي بنارك بعد توحيدك، وبعدما انطوى عليه قلبي من معرفتك، ولهج به لساني من ذكرك، واعتقده ضميري من حبك، وبعد صدق اعترافي ودعائي خاضعا لربوبيتك)(1).
نظرتُ لما حولي، فرأيتُ جمع كبير من أهل الوادي قد اجتمعوا ليسمعوا دعائي ويرددوا معي. استأنفتُ معهم الدعاء متضرعا، وقد غرق الجميع بالبكاء: (الهي ومولاي، أتسلط النار على وجوه خرت لعظمتك ساجدة، وعلى السن نطقت بتوحيدك صادقة، وبشكرك مادحة، وعلى قلوب اعترفت بالهيتك محققة، وعلى ضمائر حوت من العلم بك حتى صارت خاشعة، وعلى جوارح سعت إلى أوطان تعبدك طائعة)(2).
توقفتُ عن الدعاء، فتوقف الجميع، ولم يبق غیر ضجيج البكاء من الرجال
والنساء، فقلتُ لهم:
— یاموحدين، ولسنا بموحدين، لو كان توحيدنا لله كاملا لما ارتكبنا صغيرة ولا كبيرة، فاسألوا الله أن لا يعاملنا بعدله، بل بفضله وكرمه، ادعوا الله بألسنة جريحة: (الهي أنت الجواد الذي لا يضيق عفوك، ولا ينقص فضلك، ولا تقل رحمتك، وقد توثقنا منك بالصفح القديم والفضل العظيم والرحمة الواسعة. أفتراك يا الهي تُخلف ظنوننا أو تخيب آمالنا، کلا یا کریم)(3).
توقفتُ مرة أخرى، فارتفعت الأصوات أكثر، وقد سالت دموعهم حتى صارت انهارا تجري تحتنا، وألسنتهم تنطق مرددة (كلا ياکریم، کلا یاکریم...)
التفتُ للملائكة فرأيتهم مبهورين، على حيرة من أمرهم، صامتين لا يصدر منهم أي رد فعل لما حدث، وهم لا يتجرؤون على محاسبة أي واحد منا.
مضت فترة ونحن ندعو الله، ونتوسل إليه، ونطلب منه أن يأذن بشفاعة نبينا فينا، حتى وصلتنا الأخبار من الملأ الأعلى تقول بان الله تعالی سأل جبرائيل:
(ما فعل العاصون من أمة محمد)؟ فقال جبرائيل: (الهي أنت أعلم بهم)، فقال عزوجل: (انطلق یاجبرائيل وانظر ما حالهم).
انطلق جبرائیل متوجها إلى مالك، فوجده جالسا على سرير من نار في وسط جهنم، فلما نظر مالك إليه، قام تعظيما له، وقال:
— ياجبرائيل، ما أدخلك في هذا الموضع؟
أجابه عن سبب دخوله، ثم سأل منه، فقال:
— يامالك، ما حال العصابة من أمة محمد خاتم الأنبياء؟
أجابه مالك، وقال:
— ما أسوء حالهم، وأضيق مكانهم، قد أحرقت النار أجسامهم، وأكلت لحومهم، وبقيت وجوههم وقلوبهم يتلألأ فيها الإيمان. ياجبرائيل أنت تعلم أني لو خالفتُ العزيز الجبار قيد أنملة فيهم لاحترقتُ.
سمع جبرائیل منه ذلك، فطلب منه أن يرفع الطبق عنا حتى ينظر الينا.
أحسستُ في وقتها أن هناك أمر ما سوف يحدث، إذ شاهدتُ الخزنة قد غيروا أمكنتهم، وتنادوا فيما بينهم أن ارفعوا طبق جهنم، فقد جاء زائر کریم يطلع على حال من تحته.
رفعوا الطبق عنا، وإذا بأنظارنا تقع على مخلوق في غاية من الجمال والهيبة بين صفوف الملائكة. تمعنتُ في صورته وهيئته، فعلمتُ أنه ليس من ملائكة العذاب، وكيف يكون كذلك وهو يستبشر كل من يشاهده وينظر إليه. ثم تساءلنا فيما بيننا عمن يكون، إذ لم نر من قبل مخلوقا أحسن منه وجها، وأجمل منه
صورة.
لم تطل حيرتنا طويلا في أمره، إذ نادى فينا مالك ليخبرنا بان هذا الذي أمامكم جبرائیل الكريم على الله، هذا الذي قال الله تعالی بشأنه في القرآن: (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ)، فهو أمين الوحي على نبيكم الخاتم محمد، فهل عرفتموه؟
ضج الجميع، وراح الناس يتساءلون فيما بينهم عن سبب مجيئه، وغاية حضوره. أما أنا فاستبشرتُ كثيرا بقدومه، وقلتُ في نفسي لعل ذلك مقدمة لنجاتنا، الله اعلم.
تقدمتُ نحوه بصعوبة بالغة، إذ كنتُ أحسنهم حالا رغم أن النار أحرقت قدماي، والألم بلغ مبلغه مني، وكلما تقدمتُ أكثر اصطحبتُ معي أناسا هم في درجتي حتى وصلناه، فانبهرنا أكثر من عظمة خلقه، وبهاء صورته.
اضطربتُ عندما توجه نحوي جبرائيل وأنا في حالة يرثى لها، فقال لي:
— كيف حالكم وماذا تريدون؟
أجبته بلسان من يتلكأ في كلامه:
— ياجبرائيل، يا من حمل أعظم أمانة إلى أكمل إنسان خلقه الله، يامن هو ذي قوة عند ذي العرش مكين، يامن هو في الملأ الأعلى مطاع ثم أمين، اقرأ نبينا محمد منا السلام، وأخبره أن معاصينا قد فرقت بيننا وبينه، وأخبره بسوء حالنا وأننا بانتظار شفاعته فينا.
لم يطل بقائه فينا بعد أن علم منا ما نريد، إذ غادرنا، ثم أغلق طبق جهنم علينا مرة أخرى، وما علمنا بعدها ماذا حدث حتى وصلنا خبر يقول: إن جبرائيل بعد أن ذهب من هنا قام بين يدي الله تعالى، فقال الله له: (ياجبرائيل كيف رأيتَ العصاة الموحدين من أمة محمد ؟)، فأجاب جبرائیل: (يارب أنت أعلم بهم، ما أشد حالهم وأضيق مكانهم، تركتهم يستغيثون بنبيهم، ويطلبون شفاعته فيهم).
قال الله تعالى: (هل سألوك شيئا؟)، فقال جبرائیل: (نعم يارب، سألوني أن أقرأ على نبیهم السلام واخبره بسوء حالهم)، فقال الله تعالى: (انطلق إلى حبيبي محمد وابلغه ذلك).
ماذا سيفعل الحبيب المصطفى عندما يعلم بالعصاة من امته هل سيشفع لهم ويخلصهم من نار جهنم.. هذا ما سنرويه لكم بعد غد..؟
فانتظرونا بعد غد مع الجزء 22 ان شاءالله تعالى