✿ قصة من عالم البرزخ ✿♡ رحلة البقاء 2 ♡
الجزء 20
انتهى الحوار، وسيق بي إلى وادي المرائين فرأيتُ فيه مد البصر من البشر ما لا تُحصى أعدادهم، والكل يبكي وينادي بالويل على نفسة استقبلتني الزبانية بأسواط مؤلمة، ومقامع من نار ملتهبة، ثم قال لي أحدهم:
— ياشقي، هل تريد ثواب أعمالك الصالحة التي عملتها في الدنيا؟
استغربتُ من سؤاله هذا، فأجبته:
— نعم أريدها، فلعلها تنجيني من شر هذا الوادي وعذابه؟
ضحك ساخرا من كلامي، وقال:
— ياخاسر، لقد عملتَ بما أمر الله عزوجل، ولكنك أردتَ به غيره، ورغبتَ في مدح سواه. وياشقي لقد حبط عملك، وبطل أجرك، ولا خلاق لك اليوم، فالتمس ثوابها ممن كنتَ تعمل له، و هيهات لك ذلك(1).
قال كلامه هذا، وألقي بي من أعلى الوادي، ولم أصل إلى أسفله إلا وأنا مكسر الأضلاع، مهشم العظام، قد دخلت الأشواك في جميع أنحاء بدني، وما أن وصلتُ حتى استقبلتني زبانيته وانا في هذه الحال لتقودني إلى النار، وأنواع من العذاب...
بقيتُ في هذا الوادي سنين عدة، وأي سنین! كل لحظة فيها كانت تعادل ألف عام أو تزيد عن ذلك، لقسوتها، وشدة ألم العذاب فيها، حتى جاء اليوم الذي أتتني فيه ملائكة الغضب الذين ساقوا بي إلى هنا ليخرجوني منه، وينقلوني إلى مكان آخر.
سألتهم عن أي مكان يُراد بي، فجاءني الجواب:
— إلى وادي عذاب الموحدين من أصحاب الذنوب الكبيرة.
استغربتُ من كلامه، فكيف يكونوا موحدين وهم أصحاب کبائر! ثم إني متى كنتُ أرتكبها، حتى يُساق بي إلى هناك؟
اعترضتُ عليهم بأني لم أرتكب ذنوبا كبيرة في دنياي، وقلتُ لهم:
– إذا كنتم على صواب في أخذي إلى هناك، فقولوا لي أي كبيرة عملتها؟
جاءني الجواب برفقة سوط من أحدهم:
— هناك الكثير من الذنوب الكبيرة كنتَ تعملها ظنا منك أنها صغيرة، وهي ليس كذلك، ثم أما علمتَ أن الاستهانة بصغائر الذنوب، والإصرار عليها يُعد من الكبائر(2)؟
دخلنا وادي الموحدين، فإذا به من البشر ما لا يُحصي عدده، وكلهم من أصحاب الكبائر من الموحدين الذين ماتوا على كبائرهم، غير تائبين منها، وكل من دخل منهم في هذا الوادي لا تزرق عينه، ولا يسود وجهه، ولا يُقرن بالشيطان، ولا يقيد بالسلاسل، كما أنهم لا يجرعون الحميم، ولا يلبسون القطران..
كنتُ ضمن مجاميع الموحدين من أمة النبي الخاتم(ص)، فسألتُ أحدهم حين الدخول معهم: كم سيكون المكث هنا؟ فقال:
— بعضهم من يمكث فيها شهرا ثم يخرج، ومنهم من يمكث سنة، وأطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا منذ خُلقت إلى أن فنيت(3)؟
جزعتُ من جوابه، فما أصبرني على العذاب فيها!
مضت فترة ونحن بانتظار أمر الجليل فينا، حتى أتى الوقت الذي جاءنا فيه (مالك) خازن كل النار، وهو يحمل أمر العزيز الجبار.
نهض جميع ملائكة الوادي من خزان جهنم، ورأيتُ حالهم قد اضطرب، والكل غادر موضعه ليصطف مع أهل جنسه بشكل صفوف منتظمة مرتبة. لم يمض وقت حتى أتى مالك، وهو ملك عظيم الخلقة مهيب الشكل، مرعب الوجه، قاطب عابس، له من الهيبة والعظمة
مرعب بدرجة أن زبانية النار لا يتجرؤون على الكلام معه، إلا من أذن له.
توجه مالك نحو بعض من الملائكة، وسألهم:
— من هؤلاء؟ ما ورد علي من الأشقياء أعجب منهم، لِمَ لم تسود وجوههم، ولم توضع السلاسل والأغلال في أعناقهم؟
تكلم احد الملائكة، ويبدو أنه رئيس مجموعة فيهم، فقال:
— هكذا أتونا، فسقناهم إلى هنا بانتظار أمركَ فيهم.
توجه مالك نحونا، فارتعشت أبداننا رهبة منه، ثم قال:
— يامعشر الأشقياء من انتم؟
أجاب جمع منا وكنتُ معهم:
— نحن ممن أنزل علينا القرآن، ونحن ممن كنا نصوم شهر رمضان، ونحج بيت الله الحرام، و..
قال مالك:
— ما نزل القرآن إلا على النبي الخاتم
محمد سمعنا اسم محمد(ص)، فصحنا وصاح الجميع معنا:
— نعم، نحن من أمة النبي الخاتم محمد.
قال:
— أما كان لكم في القرآن زاجرا عن معاصي الله؟ أما كان لكم في رسول الله وعترته أسوة حسنة إن كنتم ترجون الله واليوم الأخر؟
أصابتنا الخيبة من كلامه، ونكسنا رؤوسنا إلى الأرض خجلا واستحياء منه، وارتفعت أصواتنا بالبكاء، حتى لم تبق لعيوننا دموعا بعد جفافها، فبكينا دما!
استغرب مالك منا ذلك، فقال:
— أتبكون دما، فما أحسن لو كان هذا في الدنيا من خشية الله، ولو كنتم كذلك ما مستكم النار اليوم.
توجه نحو الزبانية، وقال لهم:
— یاخزنة جهنم، ألقوهم في النار، فإنهم قد عصوا أمر الجبار، ويا نار خذيهم.
ضج الجميع، وعلت الأصوات، والكل ينادي (لا اله إلا الله)، حتى تراجعت النار عن موضعها، فتوجه مالك نحوها، وقال:
— يا نار أمرتكِ بإحراقهم، فافعلي ما تُأمرين به.
ارتعشت النار خوفا من مخالفة أمر مالك، ثم قالت:
— كيف أأخذهم يا مالك وهم يقولون (لا اله إلا الله).
قال مالك لها:
— نعم خذيهم، فبذلك أمر رب العرش.
لم ترفض النار أمر مالك بعد أن علمت أن الأمر من العلي الأعلى، فبدأت تأخذ بنا كل حسب منزلته، ولا سبيل للفرار والتخلف عنها، فمنا من أخذته إلى قدمه، ومنا من أخذته إلى ركبتيه، ومنا من أخذته إلى عنقه. أما أنا فقد أتتني النار لتأخذني، فهربتُ
منها ولحقتني حتى حُجزتُ في موضع لا مجال للفرار منه، حينها وقفت النار أمامي وفرائصي ترتعش منها، وقالت:
— ياشقي، أما علمتَ أن لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار؟
قلتُ لها:
— إي تبتُ من كل ذنب كبير، والصغائر كنتُ غافلا، عنها فلماذا احترق بكِ؟
اشتد لهيبها وكأنها غضبت من كلامي، ثم قالت:
— هي الغفلة ياشقي، هي الغفلة.
ماذا سيحل بسعيد هل ستحرقه النار وهل سيطول بقائه فيها.. هذا ما سنرويه لكم غدا..؟
فانتظرونا غدا مع الجزء 21 ان شاءالله تعالى