✿ قصة من عالم البرزخ ✿♡ رحلة البقاء 2 ♡
الجزء 18





تمعنتُ فيهن فأنكرتُ شأنهن، وارتعشت فرائصي لعذابهن، إذ رأيتُ امرأة معلقة من شعرها، ويُسمع صوت غليان دماغها، وفوران أحشاء رأسها. وأخرى معلقة من لسانها، والحميم يُصب في حلقها، وأخرى كانت تأكل لحم جسدها وتقطعه بأنيابها، وقد توقدت النارُ من تحتها.
ألوان عذاب لا يتحملها الناظر لها، فكيف بمن وقع فيها!
وجهتُ نظري نحو مجاميع أخرى، فوقع بصري على امرأة قد شدت رجلاها إلى يديها، وقد سُلطت عليها العقارب والأفاعي تلدغ بها، ولفت نظري امرأة أخرى كان رأسها رأس خنزير، وبدنها بدن حمار، وهي تُعذب بأنواع لا تحصى من العذاب. وأخرى على صورة كلب والنار تدخل في دبرها، وتخرج من فيها، والملائكة يضربون رأسها وبدنها بمقامع من نار…!
أصابني خوف شديد مما رأيته، وقلتُ سبحان الله! أهذا مصير نساء أهل الدنيا اللواتي اغتررن بها. قادني فضولي إلى أن أسأل الملائكة، فتوجهتُ نحو أحدهم، وقلتُ له:
— ماذا كان عملهن وسيرتهن حتى يُسلط عليهن هكذا أنواع من العذاب؟
أجابني، وقال:
— أما المعلقة من شعرها فإنها كانت لا تستره عن الرجال، وأما المعلقة من لسانها فكانت تؤذي زوجها، وأما التي تأكل جسدها وتقطعه بأنيابها، فهي التي كانت تزين بدنها وتجمله للناس(1)، وأما التي شُدت يداها إلى رجليها، والعقارب والأفاعي تلدغ بها، فإنها كانت قذرة في ثيابها، ولا تراعي وضوئها، ولا تتنظف بالاغتسال من النجاسات التي توجب الغسل عليها.
لم يكمل الملك شرح وسبب عذاب جميع الأصناف التي شاهدتها، لذا بادرته بالسؤال مرة أخرى:
— وما بال التي رأسها رأس خنزير، وبدنها بدن حمار؟
أجاب، وقال:
— هي النمامة الكذابة. والأخرى التي على صورة الكلب فهي النواحة المغنية(2).
انطلقنا بعد توقف يسير حتى اقتربنا من شجرة كبيرة جدا تخرج في أصل الجحيم، فطلبتُ من الملائكة المأمورين معي الذهاب إليها لأكل بعض الشيء منها، إذ بلغ بي الجوع مبلغه، وأصبحتُ حاضرا لتناول أي شيء أسد به رمقي، وأطفئ به عطشي، والغريب أن هذه المرة استجابوا لطلبي، وقادوني لتلك الشجرة!
اقتربنا منها أكثر وأكثر، فإذا بها شجرة مرعبة موحشة في شكلها وطلعها، إنها شجرة الزقوم، وهي كما قال عنها القرآن الكريم:(طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ)، عليها سبعون الف غصن من نار، وفي كل غصن سبعون ألف ثمرة من نار، وكل ثمرة كأنها رأس شيطان قبحا ونتنا، وقد تعلق على كل غصن من الزقوم سبعون ألف من الرجال والنساء، وكانت النار تدخل أدبارهم وتطلع على أفئدتهم وتخرج من أفواههم(3).
حاولتُ العودة، وتوسلتُ بهم للتراجع عن طلبي، ولكن لا جدوى ولا سبيل لذلك. أكلتُ من ثمرها كرها فإذا بها أمر من الحنظل، وانتن من الجيف، وأحر من الجمر، واصلب من الحديد! وقعت في بطني فأصبحت تغلي في أحشائي كغلي الحميم. الهي ماذا افعل، ثمرة واحدة عملت بي ما عملت، فكيف بمن طعامه الدائم منها!
رميتُ بنفسي من أعلى الشجرة إلى أودية أسفلها، لعل وضعها يكون أفضل، وحرارتها أقل، ولكنها كانت أودية مذابة من الصفر والنحاس، واشد حرا من النار والزقوم التي هربتُ منها وقعتُ في تلك الأودية فرأيتُ فيها أناسا سبقوني السقوط فيها، وهي تغلي بهم، ثم ترميهم على حوافها، حيث هوام النار من الحيات والعقارب والوحوش المرعبة في أشكالها، ولم يكن حالي يختلف عما شاهدته من أحوال الذين كانوا هناك، إذ رُمي بي إلى حافة الوادي، فراحت العقارب تقترب مني، والحيات تتراقص فرحا بقدومي..!
تمعنتُ فيها فإذا لكل عقرب منها ستون شوكة، وفي كل شوكة قلة من السم، ومما زاد الطين بلة أن أحد خزنة جهنم قال لي: إن لسعة سم واحدة لهذه العقارب تبقى تؤلمك وتصرخ منها أربعين عاما؟
أما الحيات فهي سوداء مزرقة، أقبلت نحوي..
هربتُ منها وقد مدت أنيابها، فلسعتني لسعة صرختُ منها صرخة عظيمة، وأحسستُ بألم لو اجتمع أهل الدنيا ما تمكنوا من تخيله، فكيف حال من يذوقه!
اجتمعت وحوش أخرى من جهة، والأفاعي والعقارب من جهة أخرى، وتعلقوا بي، وراح كل واحد منها يلدغ في بدني، ثم يمزقه ويقطعه، ثم يفعل فيه ما يشاء، وأنا أصرخ وأستغيث وما من مغيث..
أشار لهم خازن النار بالابتعاد عني، فابتعدوا ولكن بأي حال تركوني.. تركوني
ممددا على الأرض، لا اعلم أي الآلام أشكوها، وأي الجروح أداويها، فكل بدني سموم وجروح وقروح.
فتحتُ عيني بعد جهد كبير، وإذا بكلاب ضخمة كالجمال، سوداء في لونها، مخيفة في هيئتها، إنها كلاب من نار، تنتظر أمر الحملة على هذا العبد المسكين! وقد جاءها الأمر بذلك، فحملت حملة واحدة، وراح كل واحد منها يقتطع قطعة من بدني، فتسيل الدماء منه، ثم يُدفع بتلك القطعة في حلقي لتمزق أمعائي بحرارتها مع ما بها من رائحة نتنة عفنة، وتكرر ذلك حتى لم يبق لجلدي وجود، وانكشفت أحشائي، فراحت الكلاب تدوس على عظامي وتنهشها، آه ليت في النار عَدَم وفناء..
ظهر خازن النار وسط هذه الغبرة وهو يشير نحوي، ويقول:

ما سبب عذاب سعيد وماذا سيفعل خازن النار له.. هذا ما سنرويه لكم غدا..؟
فانتظرونا غدا مع الجزء 19 ان شاءالله تعالى