الاطلاع على أعمال الفنانين الإيطاليين، وبصورة خاصة القديمة، هي متعة بصرية ومعرفية كبيرة، فقد ظلت روما عبر تاريخ طويل من أكبر المنصات الفنية العالمية ذات الإرث العظيم، ولقد برز بالفعل عدد من الأسماء اللامعة في مجالات الفنون البصرية من رسم ونحت وزخارف، ولعل من أميز هؤلاء الفنانين «فرانشيسكو ماتسولا أو بارميجانينو»، «1503 1540م»، ذلك الرسام ذو اللونية الخاصة والمقدرات التعبيرية المذهلة، والتي امتد أثرها عبر القرون لتعانق أسلوبيته عصرنا الحديث، خاصة لدى أعمال المبدعين من تيار ما بعد الحداثة في كافة المجالات من رسم وأدب، وذلك لأن منهجيته تعتمد على رؤية فكرية وفلسفية، ورغم وفاته في سن مبكرة «37»، إلا أنه ترك إرثاً فنياً عظيماً، مازال الناس يطلعون عليه في المتاحف، وفي الأشكال التي نحتها على المعماريات القديمة في روما وغيرها من مدن إيطاليا، حيث نشط فنياً بصورة خاصة في مدن فلورنسا، وبولونيا.
لقب بارميجانينو، بالرجل الصغير القادم من بارما، لكونه ينتمي إلى تلك المدينة التي شهدت انطلاقته الأولى في عالم الفنون، وله فيها لوحتان جداريتان في كنيسة بارما، وقصر يقع في بلدة صغيرة قريبة منها، وقد اتسمت أعماله بالاستطالة ورسم الجداريات التي تعبر عن قصة أو حدث أو معنى، مثل لوحة «القديس جيروم»، و«مادونا ذات العنق الطويل»، التي تعتبر من أعماله الخالدة، وفي وقت قصير استطاع أن يكون شهرة كبيرة، رغم أن مسيرته الفنية قد تعطلت لبعض الوقت بسبب الحرب في زمن احتلال روما عام 1527، بعد وقت قصير من انتقاله إليها قادماً من بارما، ولكن رغم ذلك، فقد استطاع بارميجانينو أن يقدم رسومات وتشكيلات رائعة لفتت إليه الأنظار، ولعل من أكثر الأشياء التي ميزت مسيرته الفنية هو اهتمامه بالأدوات، حيث كان من أقدم الفنانين الإيطاليين الذين جربوا الطباعة بأنفسهم، فكان يقوم بطباعة أعماله الفنية، حيث سهل ذلك الأمر من عملية جمعها، ومازالت تلك الأعمال العظيمة محفوظة في إيطاليا ومختلف أنحاء العالم.
العودة إلى الواقع
لقد كان لبارميجانينو، أسلوبية محببة وخاصة في الرسم، إلى الدرجة التي أصبحت اتجاهاً فنياً في إيطاليا، وهي الطريق المتمثل في رسم الأشكال بالطول الحقيقي أو بنسبة ثلاثة أرباع الطول، والتي كانت تُنتج سابقاً للعائلة المالكة، وقد كان منهجه الفني الذي ينتمي إلى ما يعرف باسم «الأسلوبية التكلّفيّة»، هو منعطف كبير في تاريخ الفنون في إيطاليا.
شكل هذا الأسلوب ما يمكن اعتباره انقلاباً على أدائيات وجماليات من سبقه من المعلمين الكلاسيكيين لعصر النهضة، مثل رافائيل، ودافنشي، فقد عمل تيار «التكلفية»، على القطع مع مثالية من سبق من الفنانين، الذين نشدوا الكمال في أعمالهم ورسوماتهم، وعلى العكس من ذلك، فقد أكد رفاق بارميجانينو، ضرورة أن تتضمن الأعمال الفنية ما هو موجود في الواقع، حتى على مستوى التشوهات، وهذا الأمر شكل نقلة كبيرة، حيث استعاد الفن من غربته المتمثلة في التهويم في سماوات بعيدة، إلى أرض الواقع بكل تفاصيله.
صورة محدبة
ومن أشهر أعمال بارميجانينو التي نالت شهرة كبيرة، لوحة «صورة ذاتية في مرآة محدبة»، وتكمن عظمتها في كونها صورة ذاتية للفنان، نفذها بألوان زيتية، على سطح خشبي محدب بقطر 25 سم؛ أي أنها لوحة صغيرة، وتوجد اللوحة حالياً في متحف تاريخ الفن في العاصمة النمساوية فيينا، ويظهر فيها وجه الفنان ويده وخلفية المكان بتفاصيل فائقة الدقة، عبر أبعاد شديدة الاعوجاج، وقد عمد على محاكاة وإظهار اعوجاج الانعكاسات على الأسطح المحدبة، وقد مثلت هذه اللوحة فتحاً خاصاً في الفن، لم يكتشف في زمانه، لكنه تسرب عبر سرداب روحي وجمالي إلى زماننا هذا ليتأثر به
القصيدة اللوحة
وقد تأثر باللوحة الشاعر الأمريكي جون آشبيري «1927-2017»، فكتب قصيدة على ذات الاسم «صورة ذاتية في مرآة محدبة» ونالت شهرة كبيرة، فقد وجدت صدى كبيراً، وأدخلت صاحبها بعد نشرها عام 1975، ضمن قائمة الآثار الأدبية المعتمدة من خلال فوزه «بالتاج الثلاثي»، للأدب الأمريكي الحديث و«الكتاب الوطني»، و«الدائرة الوطنية لنقاد الكتب» ، ولم يتأثر الشاعر بلوحة الفنان على مستوى جماليتها فقط، بل بمضمونها الفكري التأملي، وانحيازها للواقع، بعد أن كان الفن قبل بارميجانينو يحلق في سماء منفصلة، فهي تعكس السياقات الفكرية والتاريخية التي ظهرت فيها اللوحة في عصر النهضة، وتحاور الأقانيم المتنوعة والمتعددة لنفسية وأسلوبية الرسام، وما يختبئ من معنى خلف خطوط اللوحة المتعرجة، لقد تأثرت القصيدة باللوحة حتى صارت آشبيري ملحمة من عيون الأدب الأمريكي، وأكثر قصائده شهرة، واللافت في هذا الأمر هو ذلك التلاقي الوجداني الغريب بين فنان ينتمي إلى أواخر عصر النهضة، وشاعر يعيش في العصر الحديث.
نهر عذب
وتقول قصيدة آشبيري، التي ترجمها للعربية غسان الخنيزي، وصدرت تحت عنوان
«جون آشبري: صورة ذاتية في مرآة محدبة وقصائد أخرى»، عن سلسلة روايات، الشارقة.
«كما أنجزها بارميجيانينو/ اليد اليمنى أكبر
من الرأس/ تدفع الناظر ثم انحراف سهل
للبعيد كما لو أنها تَحْمي ما تُعْلن عنه
بعض الألواح الزجاجية المُرصَّصة
عوارض قديمة، فِراء، موسْلين مَطْوي، خاتم مُرجان
يقول فاساري: ذات يوم هيّأ فرانسيسكو نفسه ليرسم بورتريهاً لشخصه
ناظراً إلى نفسه لتلك الغاية / في مرآة محدبة/ مثل التي يستخدمها الحلّاقون».