✿ قصة من عالم البرزخ ✿♡ رحلة البقاء 2 ♡
الجزء 17
لحظات لا تنسى، إنها لحظات السقوط من الصراط متجها نحو جهنم... نعم إنها لحظات الوقوع في النار، وقد بلغت فيها حسرتي وندامتي ذروتها، وملامتي لنفسي قمتها، فقلتُ لها يا نفسي: أما كنتِ تعلمين أن من تغره الدنيا وزينتها يكون مصيره الآن ما أنا سائر إليه؟
أما كان الأجدر بكِ أن تستثمري ساعات الدنيا القصيرة بما ينجيك من ذلة وعذاب مواقف القيامة التي مضت، وما ينتظركِ أقسى وأمر؟
أما وضعتِ القدم الثابتة على صراط جسر الدنيا الذي أرشدكِ أهل الدين إليه؟ يانفسي ذوقي عذاب النار، فما أصبركِ عليها.
حقيقة أصبحتُ حاقدا على نفسي حتى هممتُ بقتلها! ولكن لا فناء في هذا العالم، ثم هل هي نفس شخص آخر غيري؟ أم هي أنا وأنا هي؟ إن شخصيتي في الدنيا كانت عين روحي لا بدني، وعين روحي هي عين نفسي، لم تفنى حين الموت الأول، ولا في البرزخ ولا بعده، فهي باقية بقاء الأبد(1)، وهي التي تأخذ جزاء ذاتها الفانية، ومسؤولية أوامرها الخاطئة.
وصلتُ الطبقة الأولى من جهنم، فجرني خزانها إليهم، وسحبوني نحوهم. قيدوا عنقي بالسلاسل، فقلتُ لهم:
— لِمَ تعاملوني بهذه المعاملة القاسية؟ إني كنتُ سيد جنة في عالم البرزخ بعدما تطهرتُ فيه، فأين ذهب كل ذلك؟
أجابني أحدهم برفقة سوط شلني عن الكلام، فقال:
— انك لم تُحاسَب في البرزخ إلا على الجزء اليسير من أعمالك وعقائدك، فتطهرتَ منها ودخلتَ جنته، ولكن في عالم القيامة يكون الحساب شامل ودقيق على كل أعمالك وعقائدك، وأفكارك، وملكاتك، صغيرها وكبيرها، مما لم تُحاسب عليه في البرزخ.
لم ينفعني ذلك معهم، إذ حملوني وسلكوا بي طريقا طويلا في جهنم، وخلال ذلك شاهدتُ مناظر يشيب الرأس لرؤيتها، فكيف بمن هو مستقر فيها...!
رأيتُ بركة تسمى (ماء الحميم)، يُسمع من على بُعدٍ فوران ما فيها، ورأيتُ أناسا يشربون منها، فتتورم شفاههم العليا حتى تغطي أنوفهم وأعينهم، وتتورم شفاههم السفلى حتى تصل إلى صدورهم. وهناك أناس آخرون يشربون من بركة أخرى، ذات رائحة نتنة عفنة مملوءة بعرق الكفار ودمائهم، تسمی(غساقا)(2).
ومررنا من بعيد على مواقع في جهنم، فرأيت نارا عظيمة مشتعلة، وملائكة الغضب يُلقون الناس فيها وينادونهم ألم يأتكم نذير، وكلما ألقوا فيها فوج ازدادت توقدا وسعيرأ، وسُمع لها شهيقا وزفيرا(3)، وبين مدة وأخرى يُخرَجون منها وقد احترقت جلودهم، فصارت كالفحم الأسود، والنار ملتهبة في أحشائهم التي باتت ظاهرة بعد أن أنسلخ الجلد منها. كنتُ أشاهد توسلهم بالملائكة حين يُخرجون أن لا يلقوهم في النار مرة أخرى، وأسمعُ صراخهم وندائهم أن يامالك ليقض علينا ربك، فيأتيهم الجواب من خازن تلك النار أن لا فائدة من صراخكم هذا، إنكم فيها ماكثون(4).
ازددتُ خوفا واضطرابا حين شاهدتُ تلك المناظر المرعبة والمشاهد المخيفة، فسألتُ الملائكة المأمورين معي عما يراد فعله بي، فلم يجبني أحد ! بل لم يلتفت لكلامي حتى يجيبني.
مضينا إلى حيث يشاء الله لنا، ولا أعلم أي شيء أراده الله لي، وإلى أي أمر سيؤول مصيري...
مضينا حتى وقفنا عند مجموعة من الملائكة وقد اجتمعوا حول انسان يعذبوه.
شاهدتُ ملكاً أتاه فثقب صدره إلى ظهره، وآخر نتف شعر رأسه، وآخرون كانوا يضربوه بمقامع من حديد مُحمر، بينما كان ذلك الشخص يصرخ، ويقول: أما ترحموني... أتاه الجواب من الزبانية: ياشقي، كيف نرحمك ولا يرحمك ارحم الراحمين، أيؤذيك هذا؟ فقال: اشد الأذى، فأجابوه: ياشقي، كيف لو قذفنا بك في نار جهنم التي لم تدخلها بعد!
صرفتُ نظري عنه بعد أن أصابتني رعشة في بدني من قساوة ما شاهدته، وشاب شعر رأسي خوفا من أن يكون عذابي مثله. لم يمضي وقت حتى سمعتُ ذلك الإنسان وقد صرخ صرخة عظيمة، فالتفتُ نحوه وإذا به قد قذفوه في أعماق النار...
توجه أحد الزبانية الذين كانوا يعذبونه إلى الزبانية المأمورين معي، وقال لهم:
— لقد هوى في العذاب سبعين ألف سنة!
فماذا عن صاحبكم؟
أجابوه، وقالوا له:
— انه من أمة النبي الخاتم محمد(ص)، ونحن قد أمرنا بايصاله إلى وادي عذاب الموحدين من أمته.
قال الملك:
— إذن صاحبكم ذو حظ عظيم، وسوف لن يشاهد مراحل العذاب الكبرى في الطبقات السفلى.
مضينا في مسيرنا مرة أخرى، ويبدو أن الطبقة الأولى من جهنم أيضا لها دركات مختلفة من العذاب، ففي كل مرة أشاهد أنواع تختلف في الشدة والدرجة عما قبلها، وشاهدتُ في بعضها رجالا تُقطُع ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من نار، ثم يُرمي بها، وبعد السؤال علمتُ أنهم كانوا خطباء الناس وشعرائهم الذين يقولون مالا يفعلون(5).
وفي بعضها رأيتُ عقارب سوداء حجمها كالبغال، تلسع بعض الناس فيهربون منها، ولكن هيهات لهم الفرار، إذ تستقبلهم حيات سوداء مرعبة ضخمة في هيئتها، طويلة أنيابها، تخرج النيران من أفواهها لتلسعهم هي الأخرى، فيصرخون ويهربون منها ليعودوا للعقارب من جديد، وهم كذلك في دوارة بين هذه وتلك.
كان الزبانية معي يعاملوني بقسوة خلال مسيري معهم، ولكنها كانت في نظرهم جيدة، رغم الضرب والسياط منهم، والذي كان يأتيني من كل جانب وبين الحين والآخر، إذ قال لي أحدهم ذات مرة:
— إن مأمورينتا إيصالك إلى وادي عذاب الموحدين، لذلك فنحن نُظهر لك احترامنا حتى وصولنا إليه، ولا تخف كثيرا، فإن ما تشاهده في هذه الطبقة من جهنم هو أدنى درجات العذاب فيها، وسوف لا نقودك إلى الطبقات السفلى منها.
استمر مسيرنا في أخف طبقات جهنم كما يزعمون! حتى انتهينا إلى مجاميع من نسوة كُنَ يُعذبن بالوان العذاب. أوقفوني هناك، وقال لي أحد الملائكة المأمورين معي بعد أن أشار إليهن:
— لا تظن أنهن من الأمم السالفة، بل من أمة نبيكم خاتم الأنبياء.
ما قصة هذه النساء وما سبب تعذيبهن.. هذا ما سنرويه لكم غدا..؟
فانتظرونا غدا مع الجزء 18 ان شاءالله تعالى