الفصل الثاني
مباني الجبر والتفويض
وابطالهما
الصفحة 36
الصفحة
37
ربما يغترّ الاِنسان ويزعم أنّ اختلاف المنهجين يختصّ بفعل الاِنسان وعمله،
وأنّ الاَشعري يسند جميع أفعال الاِنسان إلى الله سبحانه دون الفاعل، والمعتزلي
ينسبه إلى نفس الفاعل الاختياري دون الله سبحانه، ولكن التحقيق أنَّ كلا القولين
مبنيان على منهجين مختلفين في عامة العلل.
فالاَشعري لا يعترف بمؤثر في دار
الوجود غيره سبحانه، ويعتقد بأنّه المؤثّر التام وليس لغيره من العلل أيّ دور فيه،
وعلى ذلك ينسب شروق الشمس ونور القمر وبرودة الماء وإحراق النار إلى الله سبحانه
وأنّه جرت عادته على خلق الآثار بعد خلق موضوعاتها ولا صلة بينها وبين آثارها لا
استقلالاً ولا تبعاً.
وعلى ذلك المنهج أنكر قانون العلّية والمعلولية في
عالم
الصفحة 38
الاِمكان واعترف بعلّة واحدة، وهو الله سبحانه، حتى
صرّحوا بأنّ استنتاج الاَقيسة من باب العادة والاتفاق، فإذا قال القائل: الاِنسان
حيوان وكل حيوان جسم، فلا ينتج قولنا كل إنسان جسم إلاّ بسبب جريان عادته سبحانه
على حصول النتيجة عند حصول المقدّمات فلولاها لما أنتج.
وفي مقابل هذا المنهج
منهج المفوّضة، الذين هم على جانب النقيض من عقيدة الاَشاعرة حيث اعترفوا بقانون
العليّة والمعلولية بين الاَشياء لكن على نحو التفويض، بمعنى أنّه سبحانه خلق
الاَشياء وفوّض تأثيرها إلى نفسها من دون أن يكون له سبحانه دور في تأثير العلل
والاَسباب.
وبعبارة أُخرى: هذه الموضوعات والعلل الظاهرية، مستقلاّت في الايجاد
غير مستندات في تأثيرها إلى مبدأ آخر، والله سبحانه بعدما خلقها وأفاض الوجود عليها
انتهت ربوبيته بالنسبة إلى الاَشياء، فهي بنفسها مديرة مدبرة مؤثّرة.
إنّ
الاَشعري إنّما ذهب إلى ما ذهب، لحفظ أصل توحيديّ هو التوحيد في الخالقية، فبما
أنّه لا خالق إلاّ الله سبحانه لذا استنتج منه أنّه لا مؤثر اصلّيا ولا ظلّياً ولا
تبعياً إلاّ هو.
الصفحة 39
ولكن المعتزلي أخذ بمبدأ العدل في الله
سبحانه، وزعم أنّ إسناد أفعال العباد إلى الله سبحانه ينافي عدله وحكمته، فحكم
بانقطاع الصلة وأنّ الموجودات مفوضّ إليها في مقام العمل.
فالمنهج الاَوّل ينتج
الجبر والثاني ينتج التفويض، والحق بطلان كلا المنهجين. واليك ابطال منهج التفويض
أوّلا، ثم منهج الجبر ثانيا.
الصفحة 40
إبطال التفويض :
إنّ نظرية
التفويض، عبارة عن أنّ كلّ ظاهرة طبيعية بل كل موجود إمكاني سواء أكان مادياً أم
غيره محتاج في وجوده وتحقّقه إلى الواجب دون أفعاله وتأثيره في معاليله، بل هو في
مقام التأثير مستغنٍ عن الواجب ومستقلٍّ في التأثير.
أقول : هذه هي نظرية
التفويض على وجه الاِيجاز وهي مردودة لوجهين:
الأوّل : إنّه من المقرر في محلّه
«أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد» والمراد من الوجوب هو انسداد جميع أبواب العدم على
وجهه بحيث يكون أحد النقيضين (العدم) ممتنعاً والنقيض الآخر واجباً. فما لم يصل
المعلول إلى هذا الحدّ، لا يرى نورَ الوجود، كما لو افترضنا أنّ علة الشيء مركبة من
أجزاء خمسة، فوجود المعلول رهن وجود جميع هذه الاَحزاء، كما
الصفحة
41
أنّ عدَمه رهن فقدان واحد منها وإن وجدت سائر الاَجزاء، ففقدان كلّ جزء مع
وجود سائر الاَجزاء يفتح الطريق أمام طروء العدم إلى المعلول فلا يوجد إلاّ بسدّ
جميع الاَعدام الخمسة الطارئة على الشيء، وهذا ما يقال: «الشيء ما لم يجب لم
يوجد».
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ استقلال الشيء في الفاعلية والاِيجاد إنّما يصحّ
إذا كان سدّ جميع أبواب العدم الطارئة على المعلول، مستنداً إلى نفس الشيء وإلاّ
فلا يستقل ذلك الشيء في التأثير، وليس المقام من هذا القبيل لانّه لا يستند سدّ
جميع ابواب العدم إلى الفاعل وذلك لانّ منها انعدام المعلول بانعدام الفاعل وسدّ
طروء هذا العدم على المعلول مستند إلى الله سبحانه لانّه قائم به، فهو محتاج إليه
حدوثاً وبقاءً، ومع عدم استناد بعض أجزاء العلّة إلى نفسها كيف يكون في مقام
التأثير مستقلاً؟
والحاصل: أنّه لو قلنا باستقلاله في الاِيجاد، فلازمه أن يكون
مستقلاًّ في الوجود وهو عين انقلاب الممكن إلى الواجب.
وربّما يتصوّر أنّ الفاعل
بعد الوجود مستغن عن الله سبحانه فيكون مستقلاًّ في الفعل، تشبيهاً له سبحانه
بالبنّاء وفعله، فكما
الصفحة 42
أنّ البناء مستغن عن البنّاء بعد
الاِيجاد فكذلك الاِنسان مستغنٍ عن الله بعد التكوين، ولكن التشبيه باطل فإنّ
البنّاء علّة لحركات يده ورجله وأمّا صورة البناء وبقائها، فهي مستندة إلى القوى
الماديّة الموجودة في المواد الاَساسية التي تشكّل التماسك والارتباط الوثيق بين
أجزائه، فيبقى البناء بعد موت البنّاء، فليس البنّاء علّة لصورة البناء ولا لبقائه،
بل الصورة مستندة إلى نفس الاَجزاء المتصوّرة المتآلفة على الوضع الهندسي الخاص،
كما أنّ البقاء مستند إلى القوى الطبيعية التي توجِد التماسك والارتباط بين
الاَجزاء على وجه يُعاضد بعضها بعضاً، فيبقى ما دامت القوى كذلك.
الثاني : إنّ
الفاعل الاِلهي غير الفاعل الطبيعي وتفسيرهما بمعنى واحد، ليس على صواب.
أمّا
الأوّل ، فهو مفيض الوجود وواهب الصور الجوهرية من كتم العدم، ومثَلُه الاَعلى هو
الواجب ثم المجرّدات النورية من العقول والنفوس حتى نفس الاِنسان بالنسبة إلى
أفعاله في صقعها.
وأمّا الثاني ، فهو المعد ومهيّىَ الشيء لاِفاضة الصورة عليه،
فالاَب فاعل مادّي وطبيعي يقوم بإلقاء النطفة في رحم الاَُم،
الصفحة
43
وبعمله هذا يقرب الممكن من طروء الصور النوعيّة عليه حتى تتحرك من مرحلة إلى
أُخرى، إلى أن تصلح لاَن تفاض عليها الصورة الاِنسانية المجرّدة.
إنّ عدم
التمييز بين الفاعلين انجرّ إلى الوقوع في أخطاء فادحة، فالمادّي بما أنّه لا يؤمن
بعالم الغيب، يرى الفواعل الطبيعية كافية لخلق الصور الجوهرية الطارئة على المادة،
ولكّنه لم يفرِّق بين واهب الصور، ومعدّ المادة، وقس على ذلك سائر العلل
الطبيعية.
إذا علمت ذلك فنقول: إنّ المجعول في دار الاِمكان هو الوجود وهو أثر
جعل الجاعل وهو متدلٍ بالفاعل بتمام هويته، وحيثيته، بحيث لا يملك واقعية سوى
التعلّق والربط بموجده، وليس له شأن سوى الحاجة والفقر والتعلّق، على نحو يكون
الفقر عين ذاته والتدلّي عينَ حقيقته، لا أمراً زائداً على ذاته، وإلاّ يلزم أن
يكون في حدّ ذاته غنيّاً، ثم صار محتاجا وهو عينُ الانقلاب الباطل بالضرورة إذ كيف
يتصوّر أن ينقلب الغنيّ بالذات إلى الفقير بالعرض.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ
الاِنسان مخلوق لله ومعلول له فقير في حدّ ذاته وكيانه، وما هذا شأنه لا يستغني في
شؤونه وأفعاله
الصفحة 44
عن الواجب سبحانه، إذ لو استغنى في مقام الخلق
والاِيجاد يلزم انقلاب الفقير بالذات إلى الغني بالذات، لاَنّ الفقير ذاتاً فقيرٌ
فعلاً، والمتدلّي وجوداً متدلٍّ صدوراً.
وإن شئت قلت: إنّ الاِيجادَ فرعُ الوجود
ولا يُعْقل أشرفية الفعل من الفاعلُ، فلو كان مستقلاًّ في الاِيجاد لصار مستقلاًّ
في الوجود، فالقول بأنّ ممكنَ الوجود مستقلّ في فعله، يستلزم انقلاب الممكن بالذات
إلى الواجب بالذات وهو محال، قال سبحانه: (يا أيُّها النّاسُ أنتُمُ الفُقَراءُ
إلَى اللهِ واللهُ هوَ الغَنيُّ الحَميدُ)(1)
وقال سبحانه: (يا أيُّهَا النَاسُ
ضُرِبَ مَثلٌ فَاستَمِعُوا لهُ إنَّ الَّذِينَ تَدْعُون مِنْ دُونِ اللهِ لَن
يَخلُقُوا ذُباباً ولَو اجتمَعُوا لهُ وإنْ يَسلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيئاً لا
يَستنقِذُوهُ مِنهُ ضَعُفَ الطّالِبُ والمَطلُوبُ * ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ
قَدْرهِ إنَّ اللهَ لَقويٌّ عَزِيزٌ)(2)
فتلخّص من هذين البرهانين بطلان القول
بالتفويض. ومادة البرهان في الاَوّل غيرها في الثاني.
فإنّ الاَوّل، يعتمد على
أنّ المعلول لا يوجد إلاّ بعد الاِيجاب وليس الاِيجاب شأن الممكن، لاَنّ من طرق
تطرّق العدم إلى الممكن هو عدم الفاعل وليس سدّ هذا العدم بيد
الفاعل.
____________
(1)فاطر | 15 .
(2)الحج | 73 ـ 74 .
الصفحة
45
وأمّا الثاني، فيعتمد على أنّ ما سوى الله فقير في ذاته قائم به قيام الربط
بذيه والمعنى الحرفي بالمعنى الاسمي، والفقر ذاته والحاجة كيانه، وما كان كذلك لا
يمكن أن يكون مستقلاًّ في مقام الاِيجاد وإلاّ يلزم انقلاب الممكن إلى الواجب، وهو
باطل بالضرورة.
الصفحة 46
الكلام في إبطال الجبر
قد تبيّن بطلان
التفويض، وحان حين البحث في إبطال الجبر.
البرهان الاَوّل لابطال الجبر
وهذا
البرهان يتألّف من عدة مقدّمات هي كالتالي:
1. أصالة الوجود
إنّ الاَصل في
التحقّق هو الوجود دون الماهية، لاَنّ الوجود بما هو هو يأبى عن العدم، بخلاف
الماهية فإنّ حيثيتها حيثية عدم الاِباء عن الوجود والعدم، فاذا كان هذا حالهما
فكيف يمكن أن يكون الاَصيل هو الماهيّة؟
وإن شئت قلت: اتّفق الحكماء على أنّ
الاَصل في الواجب هو الوجود، ولكنّهم اختلفوا فيما هو الاَصل في غير
الواجب،
الصفحة 47
فهل المجعول والصادر منه، هو الوجود أو الحدود القائمة
به، فالاِنسان الخارجييتركّب عقلاً من وجود وحدّ له، وهو أنّه حيوان ناطق، فهل
الصادر هو الوجود، والماهية من لوازم مرتبته، أو المجعول هي الحدود بمعنى إفاضة
العينية لها ثم ينتزع منه الوجود والتحقّق؟
والتحقيق هو الاَوّل، لاَنّ الحدود
قبل التحقّق، والوجود أُمور عدمية ليس لها أيّ شأن، وإنّما تكون ذات شأن بعد إفاضة
الوجود عليها، فحينئذ يكون الوجود هو الاَولى؛ بالاَصالة.
وبعبارة أُخرى: إفاضة
الوجود على ترتيب الاَسباب والمسبّبات تلازم اقتران الوجود مع حدّ من الحدود
الجسمية أو المعدنية أو النباتية أو الحيوانية أو الاِنسانية، فالحدود مجعولة
بالعرض ضمن جعل الوجود.
2. بساطة الوجود
الوجود بما هو وجود بسيط بحت في جميع
مراتبه وتجلّياته، فلا حدّ ولا فصل له حتى يكون له أجزاء حدّية، فلا يمكن تحديده
بالاَجزاء الحملية حتى يكون له أجزاء عقلية، ولا بالمادة والصورة حتى يتألّف من
الاَجزاء العينية. وقد
الصفحة 48
برهنوا على البساطة بما هذا حاصله: لو
كان الوجود مؤلّفاً من جنس وفصل لكان جنسه إمّا حقيقة الوجود، أو ماهية أُخرى
معروضة للوجود، فعلى الاَوّل يلزم أن يكون الفصل مفيداً لمعنى ذات الجنس فكان الفصل
المقسم مقوماً وهذا خلف.
وعلى الثاني: يكون حقيقة الوجود إمّا الفصل أو شيئاً
آخر. وعلى كلا التقديرين يلزم خرق الفرض(1)كما لا يخفى، لاَنّ الطبائع المحمولة
متحدّة بحسب الوجود مختلفة بحسب المعنى والمفهوم، والاَمر هنا ليس كذلك.(2)
وقد
أقاموا براهين على البساطة طوينا الكلام عنها.
3. وحدة حقيقة الوجود
إنّ
الوجود في الواجب والممكن في عامة مراتبه، ليس حقائق متباينة مختلفة بحيث لا جهة
اشتراك بينهما وإن أصرّ عليه المشاؤون، بل هو حقيقة واحدة يعبّر عنها بالاِباء عن
العدم وطارديته له، وعلى ذلك فالوجود في عامة تجلّياته حقيقة واحدة ذات مراتب
مشكّكة بالشدة والضعف والتقدّم والتأخّر.
____________
(1)وهو لزوم كون ما به
الاتّحاد عين ما به الاختلاف.
(2)الاَسفار: 1 | 50 .
الصفحة
49
وبرهانه:
هو امتناع انتزاع مفهوم واحد من أشياء متخالفة بما هي متخالفة من
دون جهة وحدة بينها وإلاّ لزم أن يكون الواحد كثيراً، لاَنّ المحكي بالمفهوم الواحد
هي هذه الكثرات المتكثّرة من دون وجود وجه اشتراك بينها، فكيف يكون الحاكي واحداً
والمحكي متكثّراً؟
ثم إنّ لازم كون الوجود بسيطاً وله حقيقة واحدة، هو أن يكون
الشدة والضعف عينَ تلك المرتبة لا شيئاً زائداً عليها، فالوجود الشديد هو الوجود،
لا المركّب من الوجود وشدته، كما أنّ الوجود الضعيف نفس الوجود لا أنّه مركّب من
وجود وضعف.
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّه إذا كانت حقيقة الوجود في كلّ مرتبة هو
أن تكون المرتبة نفس حقيقته لا شيئاً عارضاً عليه، وعليه يكون كل وجود في مرتبة
لاحقة، متعلّقاً بالمرتبة السابقة غير متجافية عنها على وجه لو تخلّى عن مرتبته،
يلزم الانقلاب الذاتي المحال.
وبعبارة أُخرى: إذا كانت درجة الوجود تشكلّ في كلّ
مرتبة
الصفحة 50
من المراتب واقعَ وجودِها فلا يمكن إسناد جميعِ المراتب
إلى الله سبحانه والقول بأنّه قام بإيجادها مباشرة بلا توسّط الاَسباب، لاَنّ معنى
ذلك عدم كون المرتبة مقومة لحقيقة الوجود فيها وقد عرفت خلافه، فهذا البرهان يجرّنا
إلى القول بأنّ الوجود في كل درجة ومرتبة مؤثر في المرتبة اللاّحقة وإن كان تأثير
كلّ بإذنه سبحانه، والجميع يستمدّ منه سبحانه إمّا بلا واسطة كالصادر الاَوّل أو مع
الوسائط كسائر الصوادر.
البرهان الثاني لاِبطال الجبر
قد أثبت المحقّقون من
العلماء في مسألة «ربط الحادث بالقديم» أنَّ سببَ الحادث حادث وأنّ المتغيّرات
والمتجدّدات جواهر كانت أم أعراضاً، لا يمكن أن يستند إلى الواجب القديم الثابت غير
المتغيّر، بل لابدّ من توسّط أمر مجرّد بينهما يكون له وجهان: وجه يلي الربَّ
الثابت، ووجه يلي الخلق المتجدّد والمتصرّم.
ومبدؤه بساطة ذاته ويترتب عليها
أمران:
الاَوّل: رجوع جميع صفاته وشؤونه إلى الوجود التام، البحت الخالي عن شوب
التركيب فلا يعقل في ذاته وصفاته أيَّ
الصفحة 51
تركّب واثنينية فضلاً عن
التصرّم والتجدّد، لاَنّ الاَخير يستلزم القوة والنقص حتى يكتمل بتجدّده، وبخروجه
عن القوة إلى الفعلية وهذا ممّا ينافي بساطته الحقة، إذ كلّ متدرّج ومتصرّم مركّب
من حقيقة وأمر طارىَ عليه مضافاً إلى وقوعه في إطار الزمان والمكان.
الثاني: انّ
كلّ ما يصدر عن البسيط فلابدّ أن يصدر عن حاق ذاته وصرف وجوده، لعدم شائبة التركيب
فيه حتى يصدر الشيء عن بعض الذات دون الآخر.
إذا عرفت هذين الاَمرين:
فاعلم
أنّ معنى ذلك هو امتناع صدور المتصرّمات والمتجدّدات عن ذاته بلا واسطة وإلاّ يلزم
التصرّم والتغيّر والتجدّد في هويته الوجوبية البسيطة، لاَنّ سبب الحادث حادث وسبب
المتغيّر متغيّر، وما ربما يقال: من أنّ المصحِّح لصدور المتغيّرات والمتجدّدات
المتكثّرة عن الذات البسيطة هو توسّط الاِرادة بينه سبحانه وبين الصوادر، غير
تام.
لاَنّ إرادته سبحانه بأيّ معنى فُسّرت، عينُ ذاته وليست زائدة على الذات،
لاستلزامه تصوّرَ وجود أكمل منه تعالى، فما
الصفحة 52
يصدر عنه بلا واسطة
يمتنع أن يصدر عن إرادته دون ذاته، أو بالعكس.
وبالجملة فصدور المتغيّرات عنه
سبحانه يستلزم حدوث القديم أو قدم الحادث، ثبات المتغيّر أو تغيّر الثابت، فلا محيص
أن يكون المؤثّر فيها غير الذات وهو عين نفي الجبر ونفس الاعتراف بأنّ هنا مؤثراً
ولو ظلّياً وراء الذات.
البرهان الثالث لاِبطال الجبر
قد ثبت في محلّه وجود
الخصوصية بين العلّة والمعلول، بمعنى أنّه يجب أن تكون العلة مشتملة على خصوصية
بحسبها يصدر عنها المعلول المعيّن، وإلاّ يلزم أن يكون كلّ شيء علة في كل شيء،
ولازم ذلك أن لا يصدر من البسيط الواحد إلاّ الواحد، إذ لو صدر شيئان متغايران
لاقتضت كلّ خصوصية تركب الذاتُ البسيطة من شيئين وهو محال.
وإن شئت قلت: إنّه
سبحانه هو البسيط غاية البساطة، لا تركّب في ذاته ولا هو ذو أجزاء فلا جنس ولا فصل
له ولا مادة ولا صورة، عينية كانت أو ذهنية، ولا هو متكمّم حتى يتألف من الاَجزاء
المقدارية، فهذا الوجود البحت البسيط يمتنع أن يكون
الصفحة 53
مصدراً
للملك والملكوت والمجرّد والمادّي، وإلاّ لزم إمّا صدور الكثير من الواحد البسيط
وهو يلازم إمّا بساطة الكثير أو تكثر البسيط.
وما ربما يقال من أنّ القول بوجود
الخصوصية يختصّ بالفواعل الطبيعية حيث إنّ بين الماء والارتواء رابطة خاصة ليست
موجودة في غيره. وأمّا المجردات فلم يدلّ دليل على لزوم اعتبار الخصوصية. غير تام
لاَنّ القاعدة عقلية والتخصيص فيها غير ممكن وتوسيط الاِرادة بين الذات والعقل غير
ناجح، لما عرفتَ من رجوعها إلى ذاته فلو صدر المتغيّرات والمتكثّرات عنه سبحانه
فكلّ يقتضي خصوصية مستقلّة فيلزم وجود الكثرات في ذاته سبحانه.
ولا تتوهم أنّ
معنى ذلك هو التفويض والاعتراف بالقصور في قدرته سبحانه، وإغلال يديه كما هي مزعمة
اليهود لما سيوافيك من أنّ جميع المراتب العالية والدانية مع كونها مؤثرة في
دانيها، متدلّيات بذاته، قائمة به تبارك وتعالى، كقيام المعنى الحرفي بالاسمي
والاعتراف بالدرجات والمراتب، وإنّ كلاًّ يؤثر في الآخر لا يستلزم شيئاً من
التفويض.
الصفحة 54
البرهان الرابع لاِبطال الجبر
قد عرفت أنّ حقيقة
الوجود حقيقة واحدة ذات مراتب وليست المرتبة سوى نفس الوجود، وأنّ الشدّة والضعف
يرجع في واقعها إلى الوجود، فإذا كانت حقيقة الوجود كذلك فلا يصحّ أن يكون مؤثراً
في مرتبة عليا كالواجب، دون المراتب الدانية مع وحدة الحقيقة.
وما ربما يقال من
أنّ التأثير من لوازم المرتبة الشديدة دون الضعيفة، غير تام، وذلك لما مرّ من أنّ
الشدّة ليست إلاّ نفس الوجود لا أمراً زائداً عليه، فلو كان الوجود الشديد مؤثراً
فمعناه أنّ حقيقة الوجود هي التي تلازم التأثير، فإذا كان كذلك فالوجود يكون مؤثراً
في جميع المراتب عالية كانت أو دانية، ولاَجل ذلك قال الحكماء: إنّ حقيقة الوجود
عين المنشئية للآثار ولا يمكن سلبها عنه، فسلب الآثار ولو في مرتبة من المراتب غير
ممكن لاشتمالها على حقيقة الوجود وهو خلاف المفروض.
إلى هنا تمّ الكلام في إبطال
الجبر والتفويض، بقي الكلام في إثبات المذهب المختار، أي الاَمر بين الاَمرين،
والمنزلة بين المنزلتين.
الصفحة 55
الفصل
الثالث
مذهب
الاَمر بين الاَمرين
الصفحة 56
الصفحة 57
إذا ظهر
بطلان كلا المذهبين فتثبت صحة القول بالاَمر بين الاَمرين، وذلك لما ظهر من أنّه لا
يصحّ استقلال الممكن في الاِيجاد كما لا يمكن سلب الاَثر عنه، فالجمع بين الاَمرين
يقتضي القول بالاَمر بين الاَمرين، وهو أنّ الموجودات الاِمكانية موجودات لا
بالاستقلال بل استقلالها وتأثيرها باستقلال عللها إذ لا مستقلّ في الوجود والتأثير،
غيره سبحانه.
وإن شئت قلت: إنّ وجوداتها إذا كانت عين الربط والفقر والتدلّي
والتعلّق، فتكون أوصافها وآثارها وأفعالها متدلّيات وروابط ففاعليتها بفاعلية
الربّ، وقدرتها بقدرته، فأفعالها وإرادتها مظاهر فعل الله وقدرته وإرادته
وعلمه.
ويرشدنا إلى ذلك الذكر الحكيم يقول سبحانه: (وما رَمَيتَ
الصفحة
58
إذ رمَيتَ ولكنَّ اللهَ رمَى)(1)
أثبت سبحانه الرمي للنبيّ - صلّى الله
عليه وآله وسلم - حيث نفاه عنه، وذلك لاَنّه لم يكن الرمي من النبيّ - صلّى الله
عليه وآله وسلم - بعونه وحوله بل بحول الله تعالى وقوته، فهناك فعل واحد منتسب إلى
الله سبحانه وإلى عبده، وقال سبحانه: (وما تشاءون إلاّ أنْ يَشاءَ اللهُ إنَّ اللهَ
كانَ عَليماً حَكيماً)(2)
فأثبت سبحانه المشيئة لنفسه حيث كانت لهم، وجه ذلك أنّ
هنا مشيئة واحدة منتسبة إلى العبد وفي الوقت نفسه هو مظهر لمشيئة الله
سبحانه.
إنّ المفوّضة لجأوا إلى القول بالتفويض بُغْية تنزيهه سبحانه عن
القبائح، ولكنّهم غفلوا عن أنّهم بذلك القول وإن نُزِّه فعله عن القبح وحُفظ بذلك
عدله وحكمته، لكن أُخرج الممكن عن حدِّ الاِمكان وأُدخل في حدّ الواجب فوقعوا في
ورطة الشرك «لاَنّ الاستقلال في الاِيجاد فرع الاستقلال في الوجود» وبالتالي قالوا
بتعدّد الواجب من حيث لا يشعرون.
يقول الاِمام الرضا7: «مساكين القدرية أرادوا
أن يصفوا الله عزّ وجلّ بعدله، فأخرجوه من قدرته وسلطانه
»(3)
____________
(1)الاَنفال | 17 .
(2)الاِنسان | 30 .
(3)البحار :
5 | 54، كتاب العدل والاِيمان، الحديث 93 .
الصفحة 59
كما أنّ المجبّرة
لجأوا إلى الجبر ونفي العلّية والقدرة والاختيار عن العباد لصيانة التوحيد في
الخالقية وتمجيداً وتعظيماً له سبحانه، ولكنّهم غفلوا عن أنّهم نسبوا إلى الخالق
القول، بالتكليف بما لا يطاق.
روى هشام بن سالم عن الاِمام الصادق - عليه
السّلام- أنّه قال: «إنّ الله أكرمُ من أن يكلّف الناسَ بما لا يطيقون، والله أعزّ
من أن يكون في سلطانه ما لا يريد».(1)
وأمّا القائل بالاَمر بين الاَمرين، فقد
حفظ مقام الربوبية والحدود الاِمكانية وأعطى لكلّ حقّه.
إن الناقد البصير
والقائل بالاَمر بين الاَمرين له عينان يرى بواحدة منهما مباشرة العلّة القريبة
بالفعل بقوته وإرادته وعلمه، فلا يحكم بالجبر، ويرى بالاَُخرى أنّ مبدأ هذه المواهب
هو الله سبحانه وأنّ الجميع قائم به فلا يحكم بالتفويض ويختار الوسط.
فالجبري
عينه اليمنى عمياء فلا يرى تأثير العلّة القريبة في الفعل، بل ينظر بعينه اليسرى
إلى قيام الجميع بالله تبارك وتعالى.
____________
(1)البحار، 5 | 41 الحديث
64.
الصفحة 60
والتفويضي عينه اليسرى عمياء، يرى بعينه اليمنى مباشرة
الفاعل القريب للفعل ولا يرى بعينه اليسرى قيام الجميع بالله تبارك
وتعالى.
فالجبرية مجوس هذه الاَُمة تنسب النقائص إلى الله تعالى والمفوضة يهود
هذه الاَُمة، حيث تجعل يد الله مغلولة: (غُلَّتْ أيدِيهِمْ ولُعِنُوا بِما قالُوا
بل يدَاهُ مَبسوطَتانِ) والقائل بالاَمر بين الاَمرين ينظر بكلا العينين ويسلك
الجادة الوسطى، ومن ذلك يعلم وجه وصف الاِمام الرضا للقائل بالجبر بالكفر، وللقائل
بالتفويض بالشرك حيث قال: والقائل بالجبر كافر، والقائل بالتفويض
مشرك(1)
إيقاظ:
دلّ الذكر الحكيم على أنّ الحسنة والسيّئة من عند الله، قال
سبحانه: (وإنْ تُصِبْهُمْ حَسنةٌ يقولُوا هذهِ مِنْ عندِ اللهِ وإنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئةٌ يَقولُوا هذهِ مِنْ عندِكَ قُل كلٌّ مِنْ عندِ اللهِ فَما لِهؤلاءِ القومِ
لا يَكادونَ يَفقَهونَ حَديثاً)(2)
ولكن دلّت الآية التالية على أنّ الحسنة من
الله والسيِّئة من
____________
(1)عيون أخبار الرضا: 1 | 114 .
(2)النساء
| 78 .
الصفحة 61
الاِنسان، قال سبحانه: (ما أصابكَ مِنْ حسنةٍ فمِنَ
اللهِ وما أصابكَ مِنْ سيِّئةٍ فمِنْ نَفسِكِ وأرسلناكَ للنّاسِ رَسولاً وكُفى
باللهِ شَهيداً)(1)
فكيف الجمع بينهما؟
أقول: إنّ اتضاح معنى الآيتين رهن
مقدمة وهي:
دلّت البراهين على أنّ الكمالات كلّها راجعة إلى الوجود إذ مقابلها ـ
أعني الماهيّات والاَعدام ـ لم تشمُ رائحة الوجود والكمال إلاّ بالعرض ويترتّب عليه
أمران:
1. إنّه سبحانه صرف الوجود وإلاّ لزم التركيب من الوجود وغيره وهو مستلزم
للاِمكان، لاَنّ كلّ مركّب محتاج إلى أجزائه، والحاجة نفس الاِمكان أو لازمه.
2.
إنّ شأنه سبحانه إفاضة الوجود على كل موجود وهو كلّه خير محض والشرور والاَعدام
وكذا الماهيات غير مجعولة، وأمّا ما يشتمل عليه من الشرور والنقائص فهي من لوازم
درجة الوجود ومرتبته. فكل موجود من حيث اشتماله على الوجود خير وحسن وليس فيه شرّ
ولا قبح، وإنّما يعرض له الشرّ من حيث نقصه عن التمام أو من حيث منافاته لخير آخر
وكل منهما
____________
(1)النساء | 79 .
الصفحة 62
يرجع إلى نحو
عدم، والعدم غير مجعول(1)
فاعلم أنّ مقتضى القاعدة الحكمية، أعني لزوم وجوب
الصلة بين الصادر والصادر عنه، هو كون الشيء الصادر هو الكمال إذ لا صلة بين الكمال
المطلق والنقص والشرّ والعدم.
أضف إلى ذلك أنّ الجعل لا يتعلّق بغير الوجود وهو
نفس الخير والسعادة، وأمّا الاَعدام والنقائص فلا يتعلّق بها الجعل لعدم
القابلية.
وبذلك يظهر معنى قوله سبحانه: (كلٌّ مِن عندِ اللهِ) أمّا الخير
فواضح، وأمّا الشرّ فلما عرفت من أنّ الشيء الصادر هو الوجود وهو مساوق للخير وأمّا
الشرّ فهو لازم أحد الاَمرين:
الاَوّل: كون الشرّ لازم مرتبته، مثلاً الموجود
النباتي يلازم فقدان الشعور والاِرادة والحركة بحيث لو شعر لخرج عن حدّه، وكونه
نباتاً، فهذا النقص راجع إلى عدم الوجود الذي هو من لوازم ذات الموجود في تلك
المرتبة، والذي تعلّق به الجعل هو الوجود لا الدرجة والحد.
الثاني: تزاحم وجوده
مع وجود آخر لاَجل ضيق عالم
____________
(1)الاَسفار 6 | 375
.
الصفحة 63
الطبيعة كالتزاحم الموجود بين وجود الاِنسان ووجود العقرب
مثلاً.
وبذلك يتبيّن أنّ كلّ النقائص راجعة إمّا إلى حدّ الوجود، أو إلى التزاحم
في عالم الطبيعة.
فيصحّ أن يقال: إنّ الحسنات والسيّئات من الله سبحانه باعتبار
أنّ الوجود المفاض في كل منهما خير ومفاض من الله تبارك وتعالى، وإن نسبة الشرور
والنقائص إليه بالعرض ولعلّه لهذا الاَمر يقول: (كلٌّ من عندِ الله)، بتخلّل كلمة
«عند» ولكنّه عندما ينسب السيِّئة إلى العبد يستخدم كلمة «من» مكان «عند» ويقول:
(وما أصابَكَ مِن سيِّئةٍ فمِنْ نَفسِكِ) وذلك لاَنّ نسبة النقص والقبح إلى الله
سبحانه نسبة بالعرض وهذا بخلاف نسبتهما إلى الفاعل المادّي، فإنّ النسبة إليه نسبة
بالحقيقة.
فنسبة الوجود إلى الخيرات والشرور نسبة واحدة على حدّ سواء وأمّا
الخير والشرّ فهي من لوازم مرتبته ودرجته أو تصادمه مع الخير الآخر، فهو كنور الشمس
يشعّ على الطيّب والطاهر والرجس والخبيث، دون أن يوصف بصفاتها ودون أن يخرجه عن أصل
نوريّته.
الصفحة 64
الايضاح الاَمر بين الاَمرين بالتمثيل:
قد اشتهر
أنّ المثال يقرِّب من وجه ويبعّد من ألف، وقد استمدّ المحقّقون لتبيين مكانة فعل
الفاعل إلى الله سبحانه بتمثيلين.
التمثيل الاَوّل: إذا أشرقت الشمس على موجود
صيقليّ كالمرآة وانعكس النور منها على الجدار، فنور الجدارِ ليس من المرآة
بالاَصالة وبالذات، ولا من الشمس بلا واسطة، إذ ربّما تشرق الشمسُ والجدار مظلم، بل
هو من المرآة والشمس معاً، فالشمس مستقلّة بالاِفاضة مُنوِّرة بالذات دون الاَُخرى،
والنور المفاض من الشمس غير محدود وإنّما يتحدّد بالمرآة، فالحدّ للمرآة أوّلاً
وبالذات، وللنور ثانياً وبالعرض.
وإن شئت قلت: النور المفاض من الشمس غير محدود،
وإنّما جاء الحدَ من قالبها الذي أشرقت عليه وهي المرآة المحدودة بالذات، والمفاض
هو نفس النور دون حدوده وكلّما تنزّل يتحدّد بحدود أكثر ويعرضه النقص والعدم، فيصح
أن يقال النور من الشمس، والحدود والنقائص من المرآة ومع
الصفحة 65
ذلك
لولا الشمس وإشراقها لم يكن حدّ ولا ضعف، فيصح أن يقال: كلٌّ من عند الشمس.
فنور
الوجود البازغ من أفق عالم الغيب كلّه ظلّ نور الاَنوار ومظهر إرادته وعلمه وقدرته
وحوله وقوته، والحدود والتعيّنات والشرور كلّها من لوازم الذات الممكنة وحدود
إمكانها، أو من تصادم المادّيات وتزاحم الطبائع.
التمثيل الثاني: قد نقل عن رسول
الله - صلّى الله عليه وآله وسلم - «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» ولعلّ الاِمعان في
قوى النفس ظاهرية كانت أو باطنية يُبيّن لنا مكانة أفعال العباد إلى الباري تعالى،
لاَنّ قوى النفس قائمة بها، فإذا قامت القوى بالفعل والاِدراك يصح نسبتهما إلى
القوى كما يصح نسبتهما إلى النفس فإذا رأى بالبصر وسمع بالسمع، فالاَفعال كلّها فعل
للنفس بالذات وللقوى بالتبع فلا يصح سلبها عن النفس، لكونها بالبصر تبصر وبالسمع
تسمع، ولا سلبها عن القوى لكونها قائمة بها ومظاهر لها.
يقول صدر المتألّهين:
الاِبصار مثلاً فعل الباصرة بلا شك،
الصفحة 66
لاَنّه إحضار الصورة
المبصرة أو انفعال البصر بها(1) وكذلك السماع فعل السمع لاَنّه إحضار الهيئة
المسموعة أو انفعال السمع بها، فلا يمكن شيء منهما إلاّ بانفعال جسماني فكلّ منهما
فعل النفس بلا شك لاَنّها السميعة البصيرة بالحقيقة.(2)
وأنت إذا كنت من أهل
الكمال والمعرفة تقف على أنّ تعلّق نور الوجود المنبسط على الماهيات بنور الاَنوار
وفنائه فيه، أشدّ من تعلّق قوى النفس وفنائها فيها، لاَنّ النفسَ ذات ماهية وحدود
وهما تصحّحان الغيرية بينها وبين قواها، ومع ذلك ترى النسبة حقيقة وأين هو عن
الموجود المنزّه عن التعيّن والحد، المبرّأ عن شوائب الكثرة والغيرية، والتضاد
والتباين الذي نقل عن أمير المؤمنين - عليه السّلام- قوله المعروف: «داخل في
الاَشياء لا بالممازجة، خارج عنها لا بالمباينة».(3)
إيضاح :
قد اتّضح بما
ذكرنا أنّ حقيقة الاَمر بين الاَمرين تلك الحقيقة الربانيّة التي جاءت في الذكر
الحكيم بالتصريح تارة والتلويح
____________
(1)إشارة إلى النظريتين
المختلفتين في حقيقة الاِبصار فهل الاِبصار بخلاقية النفس أو بانطباع الصورة
فيها.
(2)الاَسفار 6 | 377.
(3)وفي النهج ما يقرب منه: «لم يحلّل في الاَشياء
فيقال هو كائن، ولم ينأ عنها فيقال: هو منها بائن». نهج البلاغة، الخطبة 62 طبعة
عبده.
الصفحة 67
أُخرى وجرت على ألسنة أئمة أهل البيت:.
مثلاً تجد
أنّه سبحانه: نسب التوفّي تارة إلى نفسه ويقول: (اللهُ يَتوفَّى الاَنفُسَ حِينَ
مَوتِها)(1)وأُخرى إلى ملك الموت ويقول: (قُلْ يَتوفّاكُم مَلَكُ المَوتِ الَّذي
وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلي رَبّكُمْ تُرجَعُون)(2) وثالثة إلى الملائكة ويقول:
(فَكيفَ إذا تَوفَّتهُمُ الملائكةُ يَضرِبونَ وُجوهَهُمْ وأدبارَهُمْ)(3)
ومثله
أمر الضلالة، فتارة ينسبها إلى نفسه ويقول: (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ
الكافرينَ)(4)وأُخرى إلى إبليس ويقول: (إنَّهُ عدٌّومضلٌّ مُبينٌ)(5) وثالثة إلى
العباد ويقول: (وأضلَّهُمُ السّامِريُّ)(6)والنسب كلّها صحيحة وما هذا إلاّ لكون
أمر التوفّي منزلة بين المنزلتين، وهو مصحّح لعامة النسب.
ومّما يشير إلى أنّه
منبع كلّ كمال على الاِطلاق حتى الكمال الموجود في الممكن قوله سبحانه: (الحمدَ
للهِ ربِّ العالَمين) حيث قصّر المحامد عليه حتى أنّ حَمْدَ غيره لكماله، حمدٌ لله
تبارك وتعالى، فلولا أنّ كلّ كمال وجمال له عزّ وجلّ بالذات لما صحّ هذا
الحصر.
____________
(1)الزمر | 42 .
(2)السجدة | 11 .
(3)محمد | 27
.
(4)غافر | 74 .
(5)القصص | 15 .
(6)طه | 85 .
الصفحة 68
ويشير
إلى المنزلة الوسطى بقوله: (وإيّاكَ نَستعين) بمعنى نحن عابدون وفاعلون بعونك وحولك
وقوّتك.
هذه نزر من الآيات التي تبيّن مكانة أفعال الاِنسان بالنسبة إلى
البارىء، وأمّا الروايات ففيها تصريحات وتلويحات، وقد جمع المحقّق البارع الداماد
ما يناهر اثنين وتسعين حديثاً في الاِيقاظ الرابع من قبساته، ونحن نقتصر على عدة
روايات منها:
1. روى الكليني عن محمد بن أبي عبد الله(1)عن سهل بن زياد،(2) عن
أحمد بن أبي نصر الثقة الجليل قال: قلت لاَبي الحسن الرضا7: إنّ بعض أصحابنا يقول
بالجبر وبعضهم يقول بالاستطاعة.
قال:«فقال لي: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم،
قال عليّ بن الحسين: قال الله عزّ وجلّ: يا بن آدم بمشيئتي كنتَ أنت الذي تشاء،
وبقوّتي أدّيت اليَّ فرائضي، وبنعمتي قويتَ على معصيتي، جعلتك سميعاً بصيراً، ما
أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيّئة فمن نفسك، وذلك أنّي أولى بحسناتك منك،
وأنت أولى بسيئاتك منّي، وذلك أنّي لا أسأل عمّا أفعل
____________
(1)هو أبو
الحسن محمد بن أبي عبد الله جعفر بن محمد بن عون الاَسدي الكوفي ساكن الري، قال
النجاشي: كان ثقة صحيح الحديث. (تنقيح المقال: 2 | 95).
(2)الاَمر في سهل، سهل
وإتقان رواياته آية وثاقته في النقل عنه دام ظلّه.
الصفحة 69
وهم
يُسألون، قد نظمت لك كل شيء تريد».(1)
هذه الرواية هي المقياس لتفسير جميع
الاَحاديث الواردة في هذا المقام.
2. وبهذا المضمون ما رواه الوشاء عن أبي الحسن
الرضا7 قال سألته فقلتُ: إنّ الله فَوض الاَمر إلى العباد؟ قال: الله أعزّ من ذلك،
قلت: فأجبرهم على المعاصي؟« قال: الله أعدل وأحكم من ذلك»، ثم قال:« قال الله عزّ
وجل: يا بن آدم أنا أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيّئاتك منّي، عملتَ المعاصي
بقوتّي التي جعلتُها فيك ».(2)
3. روى هشام بن سالم عن أبي عبد الله7 قال:« إنّ
الله أكرم من أن يكلّف الناسَ ما لا يطيقون، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا
يريد ».(3)
4. روى حفص بن قرط عن أبي عبد الله 7 قال: قال رسول الله6:« من زعم
أنّ الله تعالى يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله، ومن زعم أنّ الخير والشرّ
بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه ».(4)
____________
(1)الكافي، 1 |
160 باب الجبر والقدر والاَمر بين الاَمرين، الحديث 12.
(2)بحار الاَنور 5 | 15
الحديث 20 .
(3)بحار الانوار 5 | 41 الحديث 64.
(4)بحار الاَنور 5 | 51
الحديث 85 .