لم يكن أبو الأسود الدؤلي الفنان العالم الحبر الجليل ليغفل عن نغمة التعجب في قول ابنته له: مَا أَشَدُّ الْحَرّْ -ولا ريب في وقوفها على آخره بالتسكين- بقوله: القَيْظ. لا، ولكنه أراد أن يهزها هزا عند تنبيهها على خطأ ضم "أَشَدّ". فلما استنكرت جوابه قائلة: إنما تعجّبْت!- قال: إذًا فقولي مَا أَشَدَّ الْحَرّْ، ولا يمتنع أن يكون أبقى لها على سكون الوقف.
كلتا الجملتين (ظ،= مَا أَشَدُّ الْحَرّْ، ظ¢= مَا أَشَدَّ الْحَرّْ)، اسميتان، ولولا التنغيم لكانت "ما" المبتدأ فيهما، أداة استفهام في الأولى، وأداة تعجب في الآخرة، وكان "أَشَدّ" خبر المبتدأ في الأولى، وفعلا ماضيا في الآخرة مستترا فيه فاعله، وكان "الْحَرّْ" مضافا إليه في الأولى ومفعولا به في الآخرة- ولكن التنغيم يصدق ذلك ويكذبه!
لا ريب لدي في أن ابنة أبي الأسود قد نغَّمت جملتها تنغيم تعجب -وإن ضبطت إعرابها خطأ ضبط استفهام- فلم يعهد أحد من أحد أن يريد تنغيم التعجب فينغم تنغيم الاستفهام، بل أن يتظاهر بضبط الاستفهام فيفضحه تنغيم التعجب وكأنه لسان الحقيقة الذي لا يكذب!
نعم! ولكننا أفضينا الآن من مذيعي الفضائيات المتلفزة إلى عهد جديد يحرصون فيه على ضبط الإعراب دون ضبط التنغيم وكأنهم إذا صدّروا في الجملة أداة الأسلوب أنجزوا ما وعدوا!
عجبا لهم كيف ارتاحوا إلى هذا العهد البئيس والأدوات أنفسها ربما التبس بعضها ببعض كما سبق في خبر أبي الأسود وابنته؛ فضبط "ما" هذه هو ضبط "ما" تلك، ولولا تنغيم كل منهما بتركيبها لم يتميز تعجب من استفهام؛ فكيف إذا ذكرنا "ما" الشرطية والنافية،...! أم كيف إذا ذكرنا الأداة الواحدة المتفردة التي تخرج عند المجاز إلى غير أسلوبها المعهود، ك"هل" الاستفهامية الخارجة في قول الحق -سبحانه، وتعالى!-: "هل أنتم منتهون"، إلى الأمر- وفي قوله: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان"، إلى النفي- وفي قوله: "هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا"، إلى التحقيق...!
وإذا قمنا في مقام الذكر توقفنا في أكثر ما نسمع من تلاوات؛ إذ قد جرى أكثر القراء المعاصرين حتى مشاهيرهم على تجريد التلاوة من التنغيم، وكأنه وجه من التجريد الذي أوصى به كتابَ مصحفه سيدُنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه!- وكنت قد بقيت زمنا أظنه تجريد الحروف من النَّقْط وقد جردت فيه منه حقا، ثم صرت أراه تجريد القرآن مما سواه من إضافات القراء التفسيرية، فأما النقط فقد كان في الكتابة العربية منذ نقلناها أول الزمان عن السوريانيين وأضفنا إليها الثاء والخاء والذال والضاد والظاء والغين.
أترى رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- أحب سماع القرآن من غيره تلذذا باختلاف أجناس الأصوات، أو استحسن قراءة أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه!- محدورة مصمتة كأنما تتفجر من صخر، خالية من التنغيم الذي يبوح بوجده! حاشا لله! وهل تؤثر التلاوة تأثيرها المراد إلا إذا نغمت على حسب إحساس القارئ الواعي، مهما كان! أم هل أنسي ما حييت ذلك الشاب الذي عرض لنا عُروض الطَّيْف بمسجد المصطفى من مدينة منوف أواخر ثمانينيات القرن الميلادي العشرين، فبادرنا إلى الإمامة على غرابته فينا وثقله عندئذ علينا، ثم أقبل ينغم تلاوته تنغيما انخلعت له القلوب، ثم ذهب عنا، فلم نره منذئذ، ولكنه وطَّننا في مقام التنغيم!