هناك أحاديث أخرى تشير إلى بعض المنابع التي يستقون منها غامر علمهم، ومنها يستفاد أن ذلك العلم المستقى لابد وأن يكون حاضراً لديهم في كل آن، وحاصلا عندهم في كل زمان، وهي على طوائف نشير إلى بعض منها.
أولهن:

إن عندهم الإسم الأعظم
إنَّ الإسم الأعظم على ما أعربت عنه الأحاديث، على ثلاثة وسبعين حرفاً، وإنَّ الذين عندهم منه اثنان وسبعون حرفاً!، وحرف واحد استأثر به الجليل تعالى. وما كان عند «آصف» إلى حرف واحد منه، وقد أحضر به عرش بلقيس بأسرع من طرفة عين. وكان آدم عليه السلام أكثر الأنبياء عليهم السلام حظوة به، وما كان عنده إلا خمسة وعشرون حرفاً (1) .
إنا وإن لم ندر ما الإسم الأعظم؟ وكيف يكون على ثلاثة وسبعين حرفاً؟ إلا أنَّنا نفهم من هذا البيان خطر شأنهم وكبر مقامهم وسعة علمهم حتى أنّ الله سبحانه سمى ذلك الحرف الذي كان عند «آصف» علماً من الكتاب، فكيف بمن كان لديه جميع حروفه؟.
ثانيهن:

إنَّ عندهم آيات الأنبياء عليهم السلام
ومن تلك المصادر لعلوم الأئمة الفياضة وقدرتهم الباهرة، وآيات
____________

(1) الكافي: باب ما أعطي الأئمة عليهم السلام من اسم الله الأعظم.


ه( 54 )

الأنبياء كألواح موسى وعصاه وخاتم سليمان، إلى ما سواها (1) .
وهذا ما يعرفنا بأنّ الأئمة منحوا من العلم والفضل والقدرة ما يعجز عن وصفه البيان حتى كان لديهم جميع كتب الأنبياء وعلومهم وآياتهم فأيّ وجه بعد هذا للتردد فيما كان لديهم من العلم، ومقدار ذلك الغامر منه؟
ثالثهن:

ما عندهم من الجفر والجامعة
ومصحف فاطمة وما يحدث بالليل والنهار
وهذه إحدى المنابع لعلومهم الزاخرة، وقد أنبأت هذا الطائفة عن بيان هذه المنابع. فإنّ أبا بصير يقول: دخلت على أبي عبدالله عليه السلام فقلت: جعلت فداك: إنّي أسألك عن مسألة. ها هنا أحد يسمع كلامي؟ فرفع أبو عبدالله ستراً بينه وبين بيت آخر فأطلع فيه ثم قال: يا أبا محمد سل عما بدا لك. قال: جعلت فداك إنَّ شيعتك يتحدثون أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله علّم علياً عليه السلام ألف باب يفتح له من كل باب ألف باب؟ فقال أبو عبدالله: يا أبا محمد علَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً عليه السلام ألف باب يفتح له من كل باب ألف باب. قال أبو بصير فقلت: هذا والله العلم.
ثم أنَّ الصادق عليه السلام لما رأى استعظام أبي بصير هذا المنبع
____________

(1) الكافي: باب ما عندهم من آيات الأنبياء عليهم السلام.


ه( 55 )

العزيز صار ينبئه بأن لهم منابع أخرى أغزر مادة وأسح فيضاً، فذكر له أنَّ عندهم الجامعة، وإنّها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإملائه من فلق فيه وخط علي بيمينه، فيها كل حلال وحرام، وكل شيء يحتاج إليه الناس، حتى الأرش في الخدش.
ثم ذكر: إنَّ عندهم الجفر، وأنّه وعاء من أدم فيه علم النبيين والوصيين وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل.
ثم ذكر أنّ عندهم مصحف فاطمة، وأنّه مثل القرآن ثلاث مرات ثم قال عليه السلام: إنّ عندنا علم ما كان وعلم ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة.
وفي كل هذا يقول أبي بصير مبتهراً ومستعظماً: هذا والله العلم، والصادق عليه السلام يقول: إنَّه لعلم وليس بذلك، فقال له أبو بصير: جعلت فداك فأي شيء العلم؟.
قال عليه السلام: ما يحدث بالليل والنهار، الأمر بعد الأمر، والشيء بعد الشيء، إلى يوم القيامة (1) .
إنّنا وإن لم ندرك حقيقة هذه المنابع، وقدر هذه المواد، إلاّ أنَّنا نفهم من هذا البيان أنَّهم رُزقوا من العلم ما لا مزيد عليه إلى ما شاء الله جل شأنه، وأنَّه لو يسمح لنا البيان بأن نعرفه بأكثر من الحضوري، وأوسع من الحصولي، لوسمناه به.
____________

(1) الكافي: باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة عليها السلام.


ه( 56 )

وهل بعد هذا يصح أن يقال في علمهم: إنَّه مبني على الإشاءة، وموقوف على الإرادة؟ وأما إشرافه عليه السلام على البيت ورفع الستر في هذه الرواية لا ليعلم هل فيه أحد، فيكون منافياً للحضوري، بل ليطمئن أبو بصير بخلو البيت من السامع.
***
ولقد أوجزنا بنقل الأحاديث التي دلت على سعة علومهم، وحضورها لديهم، لأننا لا نريد استقصاء ما جاء عنهم في هذا الباب، فإن الغرض الأوحد أن نعرف ما كانوا عليه من العلم، ولا نعرفه عن طريق النقل، إلا بما عرَّفوه لنا وأبانوه من ذلك المكنون في أوعية صدورهم.
وبما أوردناه يحصل الغرض المطلوب والضالة المنشودة. وإن كان ما أوردناه قطرة من غيث وغرقة من بحر، مما جاء عنهم في ذلك من الأخبار، وظهر من الآثار.


ه( 57 )

الأدلة النقلية المعارضة
ربما يقال بأنّ هناك أدلة يستفاد منها تضييق تلك الدائرة الواسعة المزعومة، وحصرها في مجال دون ذلك المجال المفروض. وهو أنَّ علمهم، وإن كان زاخر العباب بعيد القطر. إلا أنَّه لم يكن حاضراً لديهم، حاصلاً عندهم. ساعة بساعة وحيناً بحين. وإنما يكون حضوره بالأمر إذا شاءوا علم ذلك الأمر. وحصوله بالشيء إذا أرادوا أن يعلموا ذلك الشيء، ولم يكن العلم منهم سابقاً على الإشاءة. حاضراً قبل الإرادة. وعليه الكتاب والسنة.
الكتاب
ما دل من الكتاب على إن علمهم ليس بحاضر:
إن من تدبَّر الكتاب المجيد، واستقصى سوره، وجد فيه آيات عديدة تدل على إنَّ نبيَّنا صلى الله عليه وسلم، بل والأنبياء عليهم السلام كافة لا يعلمون الغيب. وليس لهم من العلم إلا ما علّمهم العلاّم جل شأنه.
والأئمة من أهل البيت عليهم السلام ليسوا بأولى من النبي بذلك. إذ أقصى ما نقول في علمهم أنَّه ورثوه عن النبي صلى الله عليه وسلم.وأنّه انتهى إليهم ما كان يعلمه صلى الله عليه وآله من جميع العلوم.
فمع تلك الآيات الكريمة قوله تعالى: «وعنده مفاتح الغيب لا


ه( 58 )

يعلمها إلا هو» فهذه الآية صريحة الدلالة بأنَّ علم الغيب منحصر به سبحانه، ولا يعلمه أحد من خلقه، وعمومها يشمل حتى الأنبياء والأوصياء.
ومن تلك الآيات البينات قوله تبارك وعلا: «ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء» فهذه وإن دلت على أنَّه تعالى يجوز أن يشرف عباده على علمه. إلا أنّها دلت على إنَّ العباد قاصرون عن الإحاطة بعلمه. ولو كان علمهم حاضراً لأحاطوا بعلمه سبحانه.
ومنها قوله تعالى شأنه: «سنقرئك فلا تنسى» فقد دلت هذه الآية الكريمة على انَّ النسيان سائغ عروضه على النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان حاضر العلم لما جاز نسيانه، ولا إحتاج إلى لفته، بأن يكون متنبهاً لما يقرأ عليه حتى لا ينسى.
ومنها قوله عز وجل: «قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله» فهذه الآية صريحة بإنحصار علم الغيب بالله جل شأنه. ولو كانوا حاضري العلم لاشتركوا معه سبحانه بهذه الصفة، بل إنَّ النبي نفسه يعترف بأنّه لا يعلم الغيب، كما حكى عنه تعالى ذلك في قوله تبارك وعز: «ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير» .. وهل بعد هاتين الآيتين من شبهة في إنَّ علم الغيب منحصر به تعالى، وأنَّ علمهم ليس بحاضر؟
ومنها قوله عز شأنه: « ومن حولك من الأعراب رجال منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق، لا تعلمهم نحن نعلمهم» وأي


ه( 59 )

دلالة أصرح من دلالة هذه الآية المباركة بأنَّ علم النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن حاضراً بالأشياء، ولو كان حاضراً لأخبر تعالى عنه، بأنَّه كان يعلم بنفاق أولئك الأعراب وبعض أهل المدينة.
فهذه الآيات الكريمة وغيرها من آي الكتاب العزيز صريحة بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يعلم الغيب. فكيف إذاً شأن الأئمة الأطهار فيه، وبما أوردناه من الآيات البينة كفاية في الدلالة على القصد.
ولا حاجة بنا إلى إيراد شيء من الكتاب الكريم سواها.
«الجواب عنها»
إننا لا نريد أن نثبت بأنَّ علمهم ذاتي، لا يحتاج إلى المعلم حتى العلام تعالى، بل إنَّ علمهم كان بلطف منه جل شأنه، وتعليم من لدنه جل ذكره. فهذا لا يأبى من أنَّهم لا يعلمون بالذات: الغيب ولا غيره، فهذه الآيات الكريمة لا تعارض تلك الآيات التي صرَّحت بأنَّ الله تعالى وإن استأثر بعلم الغيب إلا أنّه إذا شاء أظهر عليه من ارتضاه من الرسل، وأنَّ رسولنا صلى الله عليه وآله ـ كما في الأحاديث ـ ممن إرتضاه الله سبحانه.
على أنَّ هذه الآيات نفسها دلت على هذا المفاد، كما في قوله: «ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء» فإنّ هذا الإستثناء كاف في الدلالة على إشاءته تعالى لأن يحيطوا بشيء من علمه.
وهذه الطائفة محمولة على استئثاره بالعلم الذاتي. وأما من أطلعه على ذلك العلم ـ كما دلت عليه تلك الآيات ـ فذلك العلم محمول على


ه( 60 )

العرضي، بل إنَّنا لا نريد أن نثبت بما سلف أنَّ لديهم كل ما يعلمه الجليل سبحانه، ولا تلازم بين علمهم الحضوري وأنَّهم يعلمون كل ما يعلمه العلام سبحانه؛ فيجوز حينئذٍ أن نحمل ما دل على نفي علمهم وما دل على استئثاره بشيء على إختصاص ذلك بما تخصص به، ولم يطلع عليه أحدا من البشر؛ ويشهد له ما جاء في الأحاديث التي قالت بأنَّ الإسم الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفاً وأنَّ عندهم منه إثنين وسبعين، وأنَّ الجليل تعالى استاثر بحرف واحد. فهذا يدل على أنَّه اختص بشيء لم يطلعهم عليه.
على أنَّه قد يقال في الجواب إنَّ هذه الآيات وما سواها، مما دل بظاهره على أنَّ الأنبياء كانوا لا يعلمون، ولا سيما مثل قوله تعالى: «وما أدراك ما ليلة القدر» وقوله جل شأنه: «وما أدراك ما الحاقة» وقوله عز وعلا: «وما أدراك ما يوم الدين» وقوله عز وجل: «ولا تقف ما ليس لك به علم» وقوله سبحانه: «لا تعلمهم نحن نعلمهم» إلى غيرها محمولةً على أنَّ المراد بها الأُمَّة من باب إياك أعني واسمعي يا جارة.
بل يمكن الجواب عن كل آية آية. ولكن لا نريد الإطالة في الجواب، والإكثار من الكلام. ولو لم يمكن التوفيق بين هاتين الطائفتين من الآيات الكريمة، فلا بد من التصرف في ظاهر هذه الطائفة خاصة، لأنَّ حكم العقل قاض بأنَّ الإِمام لابد وأن يكون علمه حضورياً كما أنَّه لا يمكن التصرف في صريح هاتيك الآيات.


ه( 61 )


ه( 62 )
الأخبار النافية
للأخبار الدالة على الحضور
أما الأخبار التي دلت على أنَّ علمهم ليس بحاضر، فهي كثيرة جداً، لا يسع المقام استيفاؤها، وها نحن نشير إلى طرف منها في طيَّ طوائف.
الطائفة الأُولى:

كانوا لا يعلمون الغيب
هناك طائفة من الأحاديث صرَّحت بأنَّ الأئمة لا يعلمون الغيب، حتى أنَّ أبا عبدالله عليه السلام خرج يوماً وهو مغضب، فلما أخذ مجلسه، قال: «يا عجباً لأقوام يزعمون إنّا نعلم الغيب، ما يعلم الغيب إلا الله عز وجل لقد هممت بضرب جاريتي فلانة، فهربت مني، فما علمت في أي بيوت الدار هي» (1) .
وهذه ـ كما ترى ـ صريحة بأنهم كانوا لا يعلمون الغيب، ولم يكن علمهم بالأشياء حاضراً لديهم. ولو كانوا حاضري العلم دوماً، والأمور منكشفة لهم أبدا، لما خفي عليه هرب الجارية، ومكانها من بيوت الدار.
____________

(1) الكافي: كتاب الحجة، باب نادر فيه ذكر الغيب.


ه( 63 )
الطائفة الثانية
سهو النبي والأئمة
وهناك طائفة كبيرة من الأحاديث صرحت بسهو النبي صلى الله عليه وآله حتى أنَّه صلى الظهر خمس ركعات، ومرّة صلاها ركعتين! وإنَّ علياً عليه السلام صلى بغير طهر، فأخرج مناديه يعلم الناس بذلك! وحتى أنَّ الرضا عليه السلام ـ كما في عيون الأخبار ـ لعن الذين لا يقولون بسهو النبي صلى الله عليه وآله، ونسبهم إلى الغلو، وأنّ الصادق عليه السلام ـ كما في آخر السرائر ـ قال: «ربما أقعدت الخادم خلفي يحفظ صلواتي» .
وهل يتطلب الباحث إلى اكثر من هذا التصريح.. فإنّ علمهم لو كان حاضراً لكان بأفعالهم أجدر؛ فكيف يقع منهم السهو، وهم يعلمون كل شيء من أفعال العباد، أفلا علموا بأفعالهم حتى يتحرزوا من السهو في أفضلها، وهو الصلاة.
الطائفة الثالثة:

نوم النبي عن الصلاة الصبح
لقد جاء في الأخبار الصحيحة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نام عن صلاة


ه( 64 )

الصبح حتى أيقظه حر الشمس. وعلل هذا النوم بأنّ الله عز وجل فعله بنبيه صلى الله عليه وسلم رحمةً بالناس. لئلا يعيَّر النائم عن الصلاة.
وهل بعد هذا التصريح من وجه للقول بأنَّ علمهم كان حاضراً. والأمر لديهم كان متجلياً. وأين كانوا من نومهم إلى أن تطلع الشمس؟ أفلا كانوا على علم منه.
الطائفة الرابعة:

متى شاء الإمام أن يعلم أعلمه الله تعالى
وهذه الطائفة من الأحاديث اشتملت على نصوص عديدة، وكلها مفصحة وقائلة: بأن الإمام متى شاء أن يعلم شيئاً أعلمه الله سبحانه ذلك.
وهذه الطائفة يمكن أن تكون الحد المعتدل والنمرقة الوسطى، وعندها إجتماع ما اختلف من الأدلة، وائتلاف ما افترق من الأحاديث، فتحمل تلك الطوائف على أنَّ علمهم يكون حاضراً إذا شاءوا، وحاصلاً إذا أرادوا، ولا يكون حضوره دوماً، وحصوله ابداً، بل إنَّ تجلي الأُمور وانكشاف الأشياء، عند الإشاءة منهم والإرادة لها.
ومن ثَمَّ يتضح أنَّ ما ظهر منهم من الأقوال والأفعال التي أفصحت عن العلم الحاضر عندهم، والأمر المتجلي لهم، محمول على أنّهم أرادوا علم ذلك الشيء، فأطلعهم تعالى على علمه، فأظهروه بعد تلك الإشاءة.


ه( 65 )

المؤيدات لهذا الجمع
الأول:
استمرارهم عملاً وقولاً على عدم الحضور

إنَّ الذي يؤيد هذا الجمع استمرارهم في الأعمال والأقوال على أنّ ليس لديهم علم حاضر،ولا أمر منكشف. ولو كانت الأمور متجلية لهم لما رفع الصادق عليه السلام الستر ليعلم هل في البيت أحد يسمع، ولما بقيت لمعة في ظهر الباقر عليه السلام لم يصل إليها الماء عندما اغتسل، ولما أكل الكاظم عليه السلام بيضة قامر بها مولىً له. فلما علم بذلك تقيّأها (1) . الثاني:

إقدامهم على القتل وشرب السم

ومما يؤيد أنّ علمهم ليس بحاضر دوماً، أنّهم كانوا يقدمون على القتل وشرب السم، ولو كانوا عالمين بالحال قبل الوقوع في تلك الحبائل، لكان من الإلقاء للنفس في التهلكة. وهم أجل شأناً وأعلى منزلة من ان يقدموا على هذا الإلقاء.
____________

(1) أما الخبر الأول فهو في الكافي في كتاب الحجة باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة. وأما الخبر الثاني فهو في الوسائل في أبواب الغسل. وأما الثالث ففي الوسائل أيضاً في أبواب التجارة باب تحريم كسب القمار.


ه( 66 )
الثالث:
الغلو
إنّنا لو اعتقدنا بأنَّ النَّبي والأئمة عليه وعليهم السلام حاضرو العلم بالأشياء كافة. ما سبق منها وما هو آت إلى يوم الحشر. بل حتى بما هو في السماء من خبر. وبما بعد يوم القيامة من أثر. الأمر الذي يقف عنده اللبيب مبهوتاً. ويبقى لديه العارف مذهولاً، ولأمكن أن يقال بأنَّ هذا الإعتقاد غلو فيهم. وخروج عن النمرقة الوسطى في الإعتقاد بهم. ولكن لو قلنا بأنَّ علمهم وحضوره راجع إلى الإشاءة منهم. فإذا شاءوا أعلمهم تعالى بما أرادواعلمه لم يكن ذلك غلواً. ولا خروجاً عن الحد المعتدل. الجواب عن الأول:
قد بينا في مقدمات هذه الرسالة الفرق بين علمه تعالى وعلمهم، وأنَّ علمه تعالى عين ذاته، وأنّ علمهم صفة خارجة عن الذات زائدة عليها وأنّه موهوب منه جل شأنه، وهذا لا ينافي أنّهم لا يعلمون الغيب بالذات بل إنما يعلمونه بالتعليم والمنحة منه تعالى.
على أنَّ التخصيص للكتاب بالسنة جائز ووارد. وقد جاء في المقام قوله تعالى: «إلا من ارتضى من رسول» وكان والله محمد ممن ارتضاه فالرواية بعد التخصيص شاهد على أنَّ النبي كان يعلم الغيب بما أعلمه الله عز وجل.


ه( 67 )

وأما حادثة الجارية، وتظاهره عليه السلام بأنَّه لا يعلم أين هي من بيوت الدار، وإنكاره على من يقول بأنَّهم يعلمون الغيب، فلا يخفي شأنه على ذي بصيرة، لأنهم أعلم الناس بالناس وأعرفهم بضعف عقولهم، وعدم تحملهم. فلو أنَّهم كانوا يتظاهرون دوماً بما منحوا من ذلك العلم لاعتقد بهم أهل الضعف أنَّهم أرباب أو غير ذلك مما يؤول إلى الشرك، ولقد اعتقد بهم ذلك كثير من الناس من البدء حتى اليوم، على أنَّهم كانوا ينفون عنهم تلك المقدرة وذلك العلم أحياناً، وليسوا بأهل السلطة ليقيموا أود الناس بالتأديب بعد الوعظ والزجر، كما سبق لأمير المؤمنين عليه السلام مع أصحاب ابن سبأ.
بل كانوا غرضاً لفراعنة أيامهم، وهدفاً لنبالهم، ولم يكونوا بذلك المظهر عندهم؛ فلو تظاهروا بتلك الخلة كيف ترى يحمل الحسد أولئك الطواغيت على الفتك بهم، وهم المحسودون على ما آتاهم الله من فضله، واي حائل ـ يحجز عما يريدونه بهم وبأولياؤهم.
وإنهم لم يطلعوا أعداءهم ولا سواد أوليائهم على جميع ما رزقوا من ذلك الفضل، وقد لاقوا من المصائب والنوائب،والحوادث والكوارث، والوقائع والفجائع ما تسيخ منه شم الجبال، وتشيب من هوله الرضّع، ولو لم يكونوا رزقوا ذلك الجلد والصبر على قدر ما رزقوا من الفضل لما استطاع أن يحمل ـ ما تّحملوه ـ بشر، وهل مات أحد منهم حتف أنفه دون أن يتجرَّع غصص السم النقيع، أو يصافح حدود الصوارم، ويعتنق قدود الرماح، هذا وفق ما يرونه من الهتك


ه( 68 )

للحرمات، وتسيير العقائل والسب والسلب؛ والغصب للحقوق، والتلاعب بالدين، وتضييع أحكام الشريعة.
نعم! لا يظهر بتلك المنح الإلهية جميعهاً إلا الإمام المنتظر عجّل الله فرجه، لأنّه لا يخشى ذلك التسرب إلى ضعاف البصائر، لو صارح بما وُهب من الفضل، لقدرته على الردع والتأديب، ولا يخاف حسد حاسد أو سطوة ظالم، وهو صاحب السلطة والسيف.
على أنَّ في ذيل تلك الرواية ما يفصح بتلك السعة، وينبىء عن ذلك التعميم والحضور، فإنَّه عليه السلام قال: (علم الكتاب والله كله عندنا، علم الكتاب والله كله عندنا) والكتاب كما أنبأ عنه الجليل جل وعلا جاء بياناً لكل شيء. الجواب عن الثاني
أما الجواب عن الطائفة الثانية التي صرَّحت بوقوع السهو من النبي صلى الله عليه وسلم ومن الأئمة المعصومين عليهم السلام من الجهة الفقهية، فمعارضة بالاخبار الخاصة. فأما أن تحمل على التقية أو تطرح لضعفها سنداً ومتناً عن مقاومة ما دلَّ على نفي السهو والنسيان من النبي والإمام، ولعدم العامل بها صريحاً غير الصدوق في فقيهه.
وأما من جهة أُصول الدين، فلا يمكن العمل بالأخبار حتى لو صحت سنداً واتضحت دلالة إذ ليس المعتبر إلا حكم العقل، والعقل يمنع من صدور أمثال ذلك عن المعصوم المقتدى، وإنَّ صدور


ه( 69 )

أمثال ذلك لا يوافق مقام النبوة ومنزلة الإمامة بل هو حطّ من تلك الكرامة، ونقص من ذلك المنصب الإلهي.
ولو أردنا أن نجاري الخصم في جواز ذلك منهم فقهاً وعقلاً، فالأدلة الخاصة تأبى من اتصافهم بما تحملته هذه الأحاديث، وكفى منها ما سبق من تلك الطوائف سوى الأخبار التي نفت خصوص السهو والنسيان عنهم، وإنَّ الطبع يمج تلك النسب ويأبى عن قبول هاتيك الدعوى فضلاً عن إباء العقل والفقه لها. الجواب عن الثالث:
وأما الجواب عن هذه الطائفة، فيعلم من الجواب عن الثانية، وأما كون نوم النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للناس لئلا يعيروا بنومهم بعد طلوع الشمس، فتعليل غريب. نعم! هو أنسب بالحزازة بنومه عن الصلاة.
وهل اللائق بمثل تلك المنزلة الجليلة والمقام الرباني، وبمن تنام عينه ولا ينام قلبه، وبمن لا تغمض عينه إلا خلسة، أن ينام عن الفريضة، حتى يوقظه حر الشمس؟
ولو ارتكبه أقل ارباب العبادة والتهجد لكان عارا وحزازة. فكيف بسيد الأنبياء؟
وهل إنحصر رفع التعيير عن النيام إلا بنوم النبي صلى الله عليه وسلم؟
أوليس هذا من دفع القبيح بالأقبح؟


ه( 70 )

أفلا يكفي البيان والإعلان باللسان في دفع التعبير عمن ينام؟
الجواب عن الرابع:
إنَّ هذه الطائفة إنَّما صرَّحت بأنَّ علمهم موقوف على الإشاءة منهم ولكن لا دلالة فيها على أنّهم لا يشاءون إلا في وقت دون آخر، فأي صراحة فيها تعارض ما دل على أنَّهم يشاءون أبداً ويريدون دوماً؟ فتكون مؤيدة للعلم الحضوري على هذا البيان.
على أنَّه إذا كان علمهم موقوفاً على الإرادة منهم فلم يريدون ابداً علم الأشياء؟ ومن الذي لا يريد أن يكون علمه بأعلى مراتب الكمال، وهو بإختياره وإرادته؟ فإنّ الناس تريد حصول المراقي الرفيعة في الفضيلة ولا تكون إلا بالكد والجد والتعب والنصب، فكيف يمتنع أحد عن تحصيلها وهي بالرغبة والإشاءة من دون كلفة وجهاد؟ ولم لا يحصل على تلك الرتب السامية وهو يعرف ما الفضيلة، ويعلم هاتيك الدرج العلية؟



ه( 71 )

الجواب عن المؤيِّد الأول
استمرارهم على عدم العلم الحاضر:
أما دعوى استمرارهم في الأقوال والأعمال على عدم العلم الحاضر فشيء لا يمكن دفعه في الجملة، وعلى نحو الموجبة الجزئية، ولكن تظاهرهم بالحاضر أكثر، ويشهد له في القول ما سبق من تلك الطوائف، وفي العمل ما وقع لهم من الأخبار بالملاحم والمغيِّبات، والأخبار عما يعلمه الناس وعما سيعملونه وعن وساوس الصدور، ومناجاة النفوس، وهذا شيء أصبح من الجلاء والظهور بحيث يعد البرهان عليه فضولاً، والإستشهاد له يكون هذراً، وهذه «مدينة المعاجز»، وقد ذكرت لكل إمام من أئمة أهل البيت عليهم السلام من أمثال ما أشرنا إليه الجم الغفير، بل وهذا «نهج البلاغة» أمام باصرتك فيه من ذكر الملاحم، والأخبار بالمغيبات الشيء الكثير.
لربما يكون تظاهرهم أحياناً بعدم العلم هو من العلم الحاضر نفسه، لعلمهم بزنة عقول الناس ومقادير مداركهم، وعسى أن يكون من حضر أو سمع أو يسمع لا يأمنون عليه من الشذوذ في العقيدة وقوله فيهم بما ليسوا فيه، فيظهرون بعدم العلم دفعاً لذلك المحذور.
أو يخشون من أعدائهم إذا بلغ مسامعهم ذلك القول أو العمل؛


ه( 72 )

فيحملهم على التنكيل بهم أو بأوليائهم. وقد أشارت كثير من تلك الأحاديث إلى أنّهم لا يستطيعون أن يعلنوا بكل ما أوتوا من العلم، فإنَّهم قالوا: «لو كان لألسنتكم أوكية لحدثنا كل امرىء بما له وعليه» (1) . وقالوا: «لو وجدنا مستراحا لقلنا والله المستعان» (2) ، وقالوا: «إنّ العالم لا يقدر أن يخبرك بكل ما يعلم» (3) ، وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ ها هنا علماً جماً لو وجدت له حملة» (4) . فعدم تحمل الناس لعلومهم، والحذر من الشذوذ في المعتقد فيهم، والخوف من سطوات أهل الظلم والجور، وغير ذلك مما هم أعلم به، هو الذي دعاهم إلى ذلك الظهور أحياناً بعدم العلم الحاضر.
على أنَّه يمكن الجواب عن كل حادثة من تلك الحوادث التي وقعت منهم، ودلت على عدم العلم. فأما رفع الستر فلعله كان لاطمئنان أبي بصير وكيف يعلم بخبيئة أبي بصير حين دخل عليه ولا يعلم بما وراء الستر.
أما بقاء اللمعة، فلعلها كانت من تخيّل الناظر، ورواية الصادق عليه السلام لها من ذلك الشأن الذي أشرنا إليه أو لتنبيه الناظر أن
____________

(1) الكافي: كتاب الحجة، باب إن الأئمة عليهم السلام لو ستر عليهم لأخبروا كل امرىء بما له وعليه.
(2) المصدر السابق: باب إنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة عليهم السلام وأنهم يعلمون علمه كله.
(3) وصية الصادق عليه السلام لمؤمن الطاق.
(4) نهج البلاغة.


ه( 73 )

ليس عليه من باس إذا لم يخبر، وإلا كيف تبقى لمعة والغسل كان ارتماسياً، وكيف لا يستولي الماء على جميع بدن المرتمس.
وأما القيء فلعله كان مجاراة للمخبر، ولو أصر الإمام على أنَّ البيضة لم تكن مما اكتسب من القمار لاتهم المخبر الإمام، أو غير ذلك مما يكون من المخبر لتصديق خبره.
وبالجملة إنّنا لا ننكر أنّهم قد يتظاهرون أحياناً بعدم العلم قولاً أو فعلاً، إلا أنّ لذلك وجوهاً جمة لا تخفى على البصير، فلا توجب أن تحمل تلك الأدلة الصريحة بالعلم الحاضر وتصرف عن وجهها لبعض تلك الظواهر.
الجواب عن المؤيد الثاني
إقدامهم على القتل وشرب السم
وأما أنَّهم لا يعلمون بما يجري عليهم، ولو علموا لم يقدموا، لأنَّه من الإلقاء في التهلكة، فهو ينافي صريح الأخبار عنهم في هذا الشأن وأنَّهم أقدموا على علم ويقين.
فهذا الصادق عليه السلام يقول: «أي إمام لا علم ما يصيبه وإلى ما يصير: فليس ذلك بحجة لله على خلقه».
وهذا الكاظم عليه السلام، كيف أعلم السندي والقضاة عن سقيه السم وعما ستتقلب عليه حاله إلى ساعة موته.


ه( 74 )

وهذا الرضا عليه السلام. كيف أجاب السائل الذي طرأت عليه الأوهام والشكوك في حادثة أمير المؤمنين عليه السلام. حين قال له: إنَّ أمير المؤمنين عليه السلام قد عرف قاتله والليلة التي يقتل فيها والموضع الذي يقتل فيه. وقوله لما سمع صياح الأوز في الدار: «صوائح تتبعها نوائح» وقول أم كلثوم: «لو صليت الليلة داخل الدار، وأمرت غيرك أن يصلي بالناس؟» فأبى عليها، وكثرة دخوله وخروجه تلك الليلة بلا سلاح، وقد عرف عليه السلام ان ابن ملجم قاتله بالسيف، كان هذا يجوز أو يحل تعرضه؟ فقال الرضا عليه السلام: «ذلك كان كله، ولكنه خيّر تلك الليلة، لتمضي مقادير الله عز وجل».
وهكذا كان الجواب منهم عليهم السلام عن شأن حادثة الحسين عليه السلام (1) إلى كثير من أمثال هذه الأحاديث والأجوبة. ولكن أجمعها لرفع هاتيك الشبه، وأصرحها في الغرض خبر ضريس الكناسي، فإنّه قال: سمعت أبا جعفر يقول وعنده أناس من أصحابه: «عجبت من قوم يتولّونا ويجعلونا أئمة ويصفون أنّ طاعتنا مفترضة عليهم كطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يكسرون حجتهم، ويخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم، فينقصون حقّنا ويعيبون ذلك على من أعطاه الله برهان حق معرفتنا والتسليم لأمرنا أترون أن الله تبارك وتعالى افترض طاعة أوليائه على عباده، ثم يخفي عنهم أخبار
____________

(1) الكافي: كتاب الحجة. باب إن الأئمة يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم.