فى إيران الحالية و على الطريق الممتد من كرمنشاه إلى همذان، تجذب أبصار المسافرين صخرة كبيرة. وعلى علو 40 متراً منها نحتت حجرة واسعة بشكل صليب و تزينها التماثيل : هذا هو قبر " داريوس "، ملك الملوك، الذى كان منذ 2500 سنة أقوى رجل فى العالم. و يسند عرشه 28 عملاقاً يمثلون مختلف مناطق إمبراطوريته الفسيحة التى ضمت شعوباً كثيراً. و يعتبر العلماء بحق ان فارس القديمة كانت من الأمبراطوريات العظيمة فى التاريخ.
ترتفع هضبة غيران بين أنخفاضين من المياه - بحر قزوين فى الشمال و الخليج العربى فى الجنوب - و تشبه جسراً ضخماً يصل بين منتطقتين، الأولى بأتجاه شمال آسيا و الثانية بأتجاه المدار الأستوائى. فالطرقات الساحلية تقضى إلى الهند و الصين و سائر مناطق الشرق الأقصى، ومن جهة أخرى تتصل بهضبة الأناضول و بساحل المشرق، مروراً ببلاد ما بين النهرين.
حوالى سنة 1500 ق.م. جاءت شعوب من وادى الهندوس و أستقرت على هذه الهضبة. وبين سنة 614 و 612 ق.م. تمكن أحد هذه الشعوب، وهو الشعب الميدى، من الاستيلاء على أشور و نينوى، وتمكنت من القضاء على سيادة الاشوريين. بعد ذلك بنصف قرن أى فى سنة 550 ق.م. ثار ملك فارسى هو " قورش " الأخاميديين على حكم الميديين، وبعد سلسة معارك أستطاع إنشاء إمبراطورية واسعة. وقد حكمت سلالته بلاد فارس حتى غزوة الأاسكندر الكبير للبلاد فى سنة 331 ق.م.
يتوافد الناس من كل حدب وصول إلى القصر الملكى الفخم فى برسيبليس، الذى يعد أحد أفخم مقر فى المملكة. فمن مصر و الهند و أفريقيا و الأناضول، من شواطئ البحر المتوسط و المحيط الهندى كان يأتى للأعراب عن الولاء و تقديم الجزية ممثلو العشرين مقاطعة، و ممثلو الثمانى بلدان الاخرى التى تتكون منها مملكة داريوس، صهر قورش الكبير وولى عهده.
لقب داريوس " بالملك الكبير " و " ملك الملوك " و ط سيد أربعة أقطار العالم ". وكان يجلس على عرشه كإله.
حتى لو أضطر داريوس إلى قمع بعض الثورات بعنف، فإن الشعوب الخاضعة لإمبراطوريته لم تعتبر يوماً نفسها عبده لقائد غريب. و بالفعل فإن العاهل كان يتابع السياسة الحكيمة التى بدأها قورش الكبير.
لقد منحهم داريوس حتى الحكم الذاتى كما كانوا سابقاً. فحافظوا على عاداتهم و اكتفى هو بتعيين الحكام، الذين كانوا غالباً من أفراد عائلتهن و كانوا يقيمون قريباً من الملوك لمراقبة أعمالهم. أضف إلى ذلك مفتشين ملكيين مخلصين يطلق عليهم أسم " أعين و آذان الملك "، كانوا يراقبون بأستمرار الحكام الفرس، و يحرصون على ان لا يتعصف هؤلاء، و على ان يكونوا عادلين فى احكامهم، و أن يشجعوا العمل و الفنون و التجارة فى كل مقاطعة فيضمنون بذلك أزدهار المملكة.
و كان رعاية الأمبراطورية يلتزمون بالأخلاص للملك الكبير، و اداء الخدمة فى فترة الحرب، ودفع جزية سنوية، فالجزية كانت تجلب إلى خزينة الملك مبالغ ضخمة. و إضافة إلى الهبات الطبيعية التى تأتيه، يعود لداريوس كل سنة ما يقارب 38000 كيلوغرام من الذهب.
فإدارة إمبراطورية واسعة المساحة بهاذا القدر، دفعت الحكام إلى تعزيز مصلحة بريد ناجحة و شبكة طرق مهمة. فأنشأوا بالفعل طرقاً حديثة هى الأولى من نوعها فى التاريخ، وبلطوا الطرق ذات الأرض المزعجة و اقاموا الجسور و القناطر فوق مجارى المياه، و على مسافات متوازية أنشأوا محطات بريدية. و أهم هذه الطرق
" الطريق الملكية " التى تصل مدينة " سارد " بالعاصمة " سوس" على مساحة تبلغ 2683 كلم.
و كانت القوافل التجارية تقطع هذه المسافة خلال 90 يوماً، لكن رسل الملك الذين يبدلون جيادهم فى المحطات البريدية كانوا يجتازونها بأسبوع واحد فقط.
كانت قوة الجيش الفارسية شبه اسطورية، فالفرسان كانوا يطوقون جنود العدو كالأعصار، بينما يطلق الخيالة السهام على أعدائهم دون أن يضطروا إلى التوقف او الترجل، و هذا ما كان يلقى الذعر فى صفوف الأعداء. و كانت النخبة فى الجيش تتألف من عشرة الاف من الرماة فى الحرس الملكى، وكان يتم أختيارهم بعد أمتحان قاس و تدريب طويل. و كان يطلق عليهم أسم " الخالدين " لأن عددهم كان يبقى كما هو، ذلك أنه كلما وقع جندى فى المعركة يحل مكانه بسرعة جندى أخر.
أمضى قروش حياته فى الحرب، ومات فى إحدى حملاته. فخلفه ابنه قمييز و تابع خطه، محققاً حلم سلفه الأكثر طموحاً : إلا و هو غزو الأمبراطورية المصرية التى أنشئت منذ ما يقارب الألف سنة.
فأصبحت الأمبراطورية الفارسية تضم - - من الشواطئ الأفريقية إلى الهند - كل البلدان الغنية فى ذلك الزمن، و تراقب طرقات المرور بين الغرب و الشرق. حكم قمييز سبع سنين، أى إلى سنة 522 ق.م. فخلفه داريوس الأول الذى كان البانى الحقيقى لسلطان الفرس. وهو نفسه كان قائداً حربياً عظيماً. فلقد وسع الأمبراطورية و عززها بفضل حملاته على وادى الهندوس شرقاً، وعلى " تراقية " غرباً. ولكنه كان عاهلاً عادلاً بحيث أعجب به حتى أعداؤه. لا سيما أنه اقام توازناً فى سلطة الحكام بتعيينه سكرتيراً تابعاً للملك، و قائداً لجيوش الولاية.
أن بلاد فارس التى تدعى إيران منذ سنة 1934، هى اليوم من البلدان المنتجة للبترول. لقد كان البترول معروفاً فى العصور القديمة. و مؤرخو الامبراطورية الفارسية يفيدون بأن " سائلاً اسود كريه الرائحة ( يرشح من الأرض ) كان يستخدم إما للإنارة المقدمة أمام الإله، و إما لأغراض حربية".
وكانت على متن السفن الفارسية مدفعية غريبة، فبعد أن يشعلوا النار فيها، كان الفرس يقذفون السائل على جسر القوارب العدوة التى يتوخون إحراقها.
لقد عزز الملوك تربية المواشى و الزراعة. و لكى يحاولوا السهول الشرقية القاحلة إلى مساحات، و أوجدوا جهازاً معقداً و لبقاً من الأقنية تحت الأرض، فجلبوا الارز من بلاد ما بين النهرين، و الفستق من حلب، و العنب من الشام، إلخ ...
اما فى النشطات الأقتصادية فقد شجعت أيضاً، ولكن بصورة متقطعة. فتجارة الأمبراطورية فى البحر كانت بيد الفينيقيين الذين كانوا يناولون المكافآت بدل أتعابهم. فتوسيع شبكة الطرق، ووجود عملة واحدة و نظام موازين موحدة ساعد على التبادل التجارى داخل الأمبراطورية. ومن بين النشاطات الأكثر نجاحاً، يستوقفنا أستثمار المناجم و صناعة الحديد: وكان حدادو الفرس فى العصور القديمة أفضل حدادى العالم.