✿ قصة من عالم البرزخ
✿♡ رحلة البقاء 2 ♡
الجزء 13
ــ أراكِ شاحبة الوجه، سيئة الحال، فما الذي حدث؟
تحسرت، وجرت دمعتها من عينيها، وقالت:
ــ أتذكر خالتك ياسعيد؟
ــ نعم أذكرها، أعلم أنكِ لمدة يسيرة كنتِ لا تتحدثين معها.
ارتفع بكائها، وقالت:
ــ ليتني ما قطعت علاقتي معها وهي أختي، ليتني ما أصغيت للشيطان الذي كان يمنعني من الوصول اليها، ليتني قبلت قدميها بدلا عن الإعراض عنها حينما أتتني إلى منزلي تريد المصالحة، وتحذرني من عواقب الأخرة.
صمتت قليلا، ثم عادت تقول والحسرة تحرقها، والندامة تكاد تميتها لولا خلود الحياة في عالم القيامة:
ــ ليتني أصغيت لكلامك ياسعيد يوم أخذت بيدي تجرها وتقول: (لنذهب إلى بيت خالتي نصالحها، ونزيل الكدورة بينكِ وبينها). آه..
ليتني سحقت كبري، وذهبت معك ذاك وقبلت قدميها قبل يديها.
كنت أعلم أن تأنيبها لنفسها هذا لا يزيدها إلا عذابا فوق عذابها، ولكن ماذا عساي أن افعل لها ابتعدت عنها، وتركتها تتلوى الما، وراحت تجر بشعرها، وتقطعه، وتنادي:
ــ لا تتركني ياسعيد، أنا أمك، ألست أنا التي تحملت العناء من أجلك، وسهرت الليالي في رعایتك؟
تألمت من كلامها، وعدت إليها لأقول لها:
ــ أماه، إن كل إنسان هنا رهين عمله، وأنا أيضا رهين عملي(1)، لا أتمكن من التقدم خطوة واحدة إلا إذا كانت أعمالي وملكاتي تؤهلني لذلك، ولكن لعلي أتمكن من الشفاعة لك في المواقف الأخيرة إن كانت درجتي آنذاك تسمح لي، ودرجتكِ تجيز لك استقبالها.
غادرتها هذه المرة دون عودة، وابتعدت عنها رغم سماعي لصراخها وندائها لي.
خرجت من عقبة صلة الرحم، ودخلت في عقبة المسؤولية، دخلت فيها ولا مناص من الدخول، ولا مجال للفرار منها...
تلقتني ملائكة الغضب بأشكالها المخيفة المرعبة وهيئتهم الموحشة! فأصابني خوف عظيم منهم، وأصبح بدني يرتجف لرؤيتهم، ويرتعش كلما نظرت إليهم.
ضربني أحدهم بسوطه فوقعت أرضا، وانشل بدني عن الحركة. نظرت لما حولي أبحث عن عملي الصالح فلم أجده، بل رأيت آلاف من الخلق قد سقطوا أرضا، وحال بعضهم مثل حالي، والكثير منهم أسوء مني.
وبجهد جاهد، رفعت رأسي لعلي أجد من يسعفني ويترحم على حالي، ولكني رأيت شخصا قبيحا، أسود اللون من أعلاه لأسفله، قائم الشعر مكشرا، قد برزت أنيابه الصفراء، ونزلت إلى نصف بدنه، وهو ينظر إلي ويقهقه بصوت عالي، وما أن رفعت رأسي، واستقر في مكانه حتى لطمه برجله، ولم يكتفي بذلك بل راح يضغط على وجهي ويسحقه، ويقول:
ــ هل ظننت أنك لا تقع في مخالبي مرة أخرى، أين عملك الصالح لينجيك؟ لقد هرب ولا ترى له أثرا، وبقيت وحيدا في قبضتي.
ما كان لدي القدرة على الكلام معه كي اسأله من يكون، ولكني ظننت أنه خلاصة أعمالي السيئة، وقد كان كما ظننت.
أحسست بذلة موقفي أمام هذا القبيح وقد استفحل علي، ولا سيما قد غمرتني رائحته النتنة التي لا توصف نتانتها، ولا يستطيع أحد تحملها.
قال لي مستهزئا:
ــ كانت تأخذك نشوة الرئاسة عندما يقال لكَ مدير مشاريع، وتفرح كثيرا بهذا الاسم، وتحس بالعلو على غيرك ممن دونك في المسؤولية والوظيفة.
أحسست بزيادة ضرب الأقدام على وجهي وصدري، ولا أدري أهي منه أم من أعوانه الذين أتوا ليشاركوه فرحته، ولا أعلم أين ذهب ملائكة الغضب، إذ لم أعد أسمع لهم صوتا، ولا أحس لهم أثرا، وأصبحت عاجزا تماما عن أداء أي شيء، حتى عن رؤيتهم والتكلم معهم...
مضت فترة طويلة وأنا بهذه الحالة، حتى في الوقت الذي أحسست فيه بأن شخصا ما يجرني، وجهت نظري نحوه وإذا بهم ملائكة الغضب قد عادوا، فسألتهم عما يریدون فعله بي، فجاء الجواب أنه يُراد بي إلى غرفة المحاسبة التي كثيرا ما دخلتها في العقبات السابقة.
دخلت غرفة المحاسبة وقد حضر الجميع من متهم، وشهود، وقضاة، ومحامين...
لا تتصوروها كمحكمة عالم الدنيا في مصاديقها، بل في مفاهيمها فقط، فالمتهم أنا، ولكن ليس كمتهمي محاكم الدنيا، إذ كل سمات بدني تشير إلى تهمتي، والشهود ليسوا كشهود الدنيا يحتمل فيهم الصدق والكذب، بل لا مجال الكذب والخداع هنا، ونفس أعضاء بدني تشهد، والأرض تشهد، والملكان المرافقان لي في الدنيا على يميني وعلى يساري يشهدان، وقادة الأمة يشهدون من الأئمة والأولياء. أما المحامين فهم أعمالي الصالحة وملكاتي الحسنة! أما القضاة فهم من الملائكة الذين لا يأخذون رشوة، ولا تؤثر فيهم قرابة أو صداقة وهم موكلون من الله تعالى الحاكم المطلق الذي هو شاهد على أعمال الخلائق، بل على خواطر أفكارهم، وهمسات قلوبهم ونياتهم، قبل أن يشاهد الشهود ما وقع.
عرض القاضي علي كثيرا مما قصرت به في مسؤولياتي تجاه عائلتي والمجتمع الذي كنت فيه، وحوسبت على ذلك حسابا دقيقا، حتى وصل المطاف بنا إلى فترة تحملت فيها مسؤولية إدارة قسم المشاريع في الشركة التي كنت أعمل فيها، وليتي ما تحملتها ولا قبلتها.
سألني القاضي عن سبب قبولي مسؤولية إدارة المشاريع لفترة شهرين حتى يعود مديرها من سفره. أطرقت قليلا، ثم أجبته:
ــ كان مدير الشركة قد أصر كثيرا على قبول طلبه، وعدم رفضه، لأنه لم يجد غيري شخصا آخر نزيها يعتمد عليه، ولهذا فإني استحييت منه، وما رفضت له طلبه.
ــ وما وجه شعورك بشيء من الفرح الذي دخل قلبك حين معرفتك بالأمر، أهو لأجل أن ذلك يقربك من الله؟ أم لبروز نشوة حب الرئاسة لديك؟
لم أجبه، فأذن القاضي لأحد الملكين الذين كانا يرافقاني في الدنيا، فقال الملك الأول بعد أن توجه نحوي:
ــ نحن الملكان اللذان كنا معك في الدنيا حيث ما كنت، أحدنا كان على يمينك، والأخر على يسارك، نراقب أعمالك، ونسجل خواطرك، ولا يفوتنا شيء عنك. نحن الذين قال الله عنا: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلِا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).
قلت سبحان الله، كيف يخفى على الله
شيء، وأنتما ترافقاني في الدنيا أينما ذهبت وخلوت.
هل كان عمل سعيد بهذا المنصب خالصا لله وهل سينجوا من هذه العقبة.. هذا ما سنرويه لكم غدا..؟
فانتظرونا غدا مع الجزء 14 ان شاءالله تعالى