إذا سألت أي أحد عن طريقة لتعلم بعض الفلسفات فبالتأكيد ستكون الإجابة هي الكتاب، لكن إن كان من تسأله قد شاهد هذا الفيلم فبالطبع ستتغير إجابته، وستجد الفيلم مرشحًا بقوة كمصدر تستقي منه الفلسفة والإلهام أيضًا. الفيلم من إخراج مايك لي، وهو أيضًا كاتب السيناريو، والفيلم من بطولة ديفيد ثيوليس -جوني-، وعلى الرغم من أن الفيلم حصد العديد من الجوائز إلا أنه لم يحظ بقاعدة جماهيرية ضخمة ويرجع هذا في الأساس إلى نوع الفيلم والفكرة التي يقدمها، ولكن جودة العمل لا تقاس بالقاعدة الجماهيرية، كما أن الفيلم وبالرغم من المدح الذي ستسمعه عنه إلا أنني لا أراه أيضًا بهذه المثالية، وفي هذا المقال سنقف عند أهم المحطات التي يستحق فيلم Naked أن يُمدح لأجلها وأهم المحطات التي يستحق أن يُذم لأجلها.
بداية الفيلم
تبدأ قصة الفيلم بجوني، الذي يذهب إلى منزل صديقته القديمة التي كانت تعيش معه لكنها سافرت -الآن- إلى لندن وفي منزلها الجديد سيحاول هو الوصول لها، لكن هل حضر جوني في الأساس من لندن حتى يرى صديقته؟ يصعب الإجابة على هذا السؤال، بل يصعب الإجابة من الأساس عن أي سؤال يخص جوني، فهو إنسان بوهيمي، يسير فقط بلا وجهة محددة، أينما تتحرك الرياح يسلم نفسه لها، وأينما يسقط رأسه ينام سواءً على رصيف في الشارع أو في مكب النفايات هو لا يهتم بشيء، يذهب جوني لمنزل صديقته ويجد هناك زميلتها في السكن صوفي، ينتظر قليلًا مع صوفي حتى قدوم صديقته لويز من العمل، وفي هذا الوقت تبدأ شخصية جوني بالظهور، مثقف واسع الاطلاع، وشخصية متهكمة صاحبة كوميديا لاذعة وحادة وقوية، ومن هنا ينطلق الفيلم في عرض شخصية جوني أكثر وتفاعلاتها مع الواقع، كما يعرض مغامراته في لندن، بلد جديدة بلا سكن ولا مال ولا طعام فقط بعض الكتب.
الصورة النمطية للمثقف
إذا حاولت تخيل المثقف، فإن أي صفة ستخطر في بالك هي بالتأكيد صفة موجودة في بطل هذا الفيلم، فإذا تحدثت عن المعلومات الكثيرة ستجد، وإذا تحدثت عن امتلاك أدوات تحليل ونقد ومعالجة البيانات ستجد، حتى ولو تركنا المثقف الذي يجلس في مكتبه طول الوقت وتخيلنا المثقف الذي يحب الجميع أن يتخيلوا أنفسهم مكانه فسنجد أيضًا أن جوني هو المثال المناسب فهو يرتدي نفس الملابس كل يوم ينام في الشوارع رغم العبقرية الفذة التي يتمتع بها، يشرب السجائر باستمرار، يعرف كل شيء، وبسهولة يحصل على الفتيات، كل يوم ينام في منزل غير الآخر، أو قد لا ينام في أي منزل على الإطلاق.
لا تتوقف صورة المثقف الفيلسوف البوهيمي عند هذا الحد، بل تقوم شخصية هذا الفيلم أحيانًا ببعض الأفعال العبثية بشكل لا يصدق، ففي أحد المشاهد نجده يتحدث مع متشرد في الشارع عن النبوءات ذاتية التحقق فيتحدث عن نبوءة نوستراداموس وكيف دفعت هتلر للغزوات والحروب، ثم يتحدث معه عن نهاية العالم وكيف يمكن أن تحدث بسرعة كلما تحدثنا عنها مثلما حدث في نبوءة هتلر، كما نجد أن الفلسفات التي كان يطرحها لم تكن بسيطة ومع ذلك يستمر في الشرح والعرض لمتشرد لا يفقه كلمة مما يقول، أما الكوميديا فهي أعمق من الكوميديا المعتادة فالمعتاد لدينا مثلًا إذا سأل أحدهم أحد المسجونين الجدد كيف أتيت إلى هنا أن يذكر المسجون وسيلة المواصلات وليس القضية التي أتت به، أما في حالة جوني فالأمر مختلف فإذا سألته كيف أتى إلى هنا لن يخبرك وسيلة مواصلات بل سيحكي لك قصته من انفجار المفردة منذ بداية الكون مرورًا بالطاقة وتشكل المادة وصولًا للإنسان الحديث، وإذا نعته بلفظ سيئ سيخبرك ببساطة أنه يتأقلم على الأشياء حوله، وهكذا نجد هذا النوع الذكي واللاذع والممتع بكل تأكيد من الكوميديا.
حياة وتصرفات الأبطال وعلاقتهم باسم الفيلم
بالرغم من أن جوني هو الشخصية الرئيسية في الفيلم إلا أن هناك خط درامي آخر في الفيلم وهذا الخط هو قصة جيرمي، رجل غني يحب النساء لكنه لا يستطيع أن يعبر عن ذلك بأناقة فنجده رجل سيئ غير محبوب، وفي حال أعجبت به امرأة بسبب ماله فإننا نجدها تحاول الهروب منه بسرعة وذلك بسبب سلوكه السادي غير المبرر عند ممارسة الحب، وتصرفاته الغريبة والموترة في المطلق، كما أن عصبيته قد تصل إلى حد استفزاز المشاهد نفسه، وبمرور بعض الأحداث في قصة جيرمي، سنجده أخيرًا يستقر في بيت لويز وصوفي، وهناك يقول إنه مالك المنزل ويبدأ بالتصرف بأسلوب فظ، امرأتان ورجل يحاول ابتزازهما والضغط عليهما بأبشع الطرق الممكنة، والمرأتان عالقتان معه، حتى جلب الشرطة لن يكون خيارًا جيدًا وذلك بسبب شكل المرأتين وحالتهما الاجتماعية وشكل جيرمي وحالته الاجتماعية، وفي هذا الجزء من الفيلم سيخلق المخرج الكثير من الخوف والقلق والإثارة.
الغريب هنا أن جوني أيضًا لديه ميول عنيفة غير مبررة وهذه الميول هي مشابهة كثيرًا لميول جيرمي، فقد بدأ الفيلم بامرأة تصرخ في وجه جوني بسبب عنفه غير المبرر معها، وبعد هذا المشهد سنجد جوني يمارس أحيانًا الحب بعنف مزعج، وأحيانًا أخرى يستعمل عبارات قاسية تستطيع أن تقتل الشخص الذي أمامه وهو حي، ونجد ذلك عندما قابل المرأة اليائسة التي قال لها إنها تشبه أمه، وهذا العنف الغريب سواءً في شخصية جوني أو جيرمي يمكن أن أبرره في نطاق تسمية الفيلم وهو “العري” أو “المكشوف” وهنا سيصبح المقصود من التسمية هو كشف وتعرية النفس الإنسانية، وبالتأكيد جوني هو هذه النفس الإنسانية التي إذا كشفنا عن حقيقتها سنجد أنها طواقة للمعرفة والضحك والجنس والحرية والغرائز الحيوانية بشكل عام، ويمكن القول إن الإنسان هنا قد يكون قريبًا من الإنسان الذي كان يتحدث عنه الكاتب الماركيز دو ساد.
مثقف .. ولكن !
المشكلة أنه عند عرض المثقف وتفاصيله والمعلومات التي يمتلكها يجد بعض الناس أن نقده شيئًا من الخيال، بل قد يصل الأمر ببعض الناس إلى تبجيله دون سبب معين وهذا ما لاحظته من بعض جمهور هذا الفيلم، أنا لا أختلف معهم أن الفيلم فيلم فلسفي جيد، لكن هل يعني هذا أن جوني إنسان جيد؟ بالطبع لا، تبدأ المشكلة عند تثبيت وتأكيد شكل الشخصية المثقفة النمطية مثل السجائر والشكل الرث وعدم الاهتمام بالناس وكلامهم، بل والسعي الطفولي للحرية، فبالرغم من سعادة جوني بلويز إلا أنه قرر في النهاية الهروب منها وذلك بعد أن تركت وظيفتها من أجله وكل هذا من أجل أن يشعر ببعض الحرية، والمشكلة أن عرض الحرية بهذا الشكل يعتبر خطأ، لأن السعي المستمر للحرية ومحاولة عدم الالتزام بأي شيء سيحول الإنسان إلى عبد سيئ وسيضعه في قيود أكثر مما يتخيل، فالأمر لا يتعلق بالهروب، وكما نعرف أن الحضارة بدأت عندما وضع الإنسان الأسوار حوله، ومن هنا يمكن القول إن جوني شخصية سلبية وعالة على كل من يقابله.
مثقف لا ينفع الناس بما يتعلم ولا يضيف أي قيمة أو شيء جديد في المجتمع ولا حتى يمتلك وظيفة، كل هذا مقبول إذا كان هو سيتحمل نتيجة هذا، أما أن يلقي نفسه على الناس للأكل والشراب فهذا شيء بعيد عن المثقف الذكي، كذلك السجائر وملابسه لا تدل على شخص مثقف بقدر ما تدل على إنسان لا يهتم بنفسه ولا بصحة جسده، كذلك التصرفات غير المقبولة مع النساء، والتصرفات الفظة والقاسية، قد يكون كل هذا مقبولًا في سياق الفيلم وأن هذه هي النفس البشرية إذا حاولت التحرر، وأن هذه هي شخصية هذا المثقف بالذات وليست شخصية المثقف بشكل عام فليس كل المثقفين هكذا، وليس كلهم مثل محمود درويش يعيشون وحيدين مع الكتب والقهوة والشعر، وعلى الرغم من هذا فإن شخصية البطل تستحق النقد بكل تأكيد.
وهكذا نكون قد عرضنا مراجعة لواحد من أكثر الأفلام جدلًا، ونجد أن رأي المشاهدين في هذا الفيلم ينقسم بشكل متباين للغاية، بعضهم يرى أنه واحد من أعظم الأفلام السينمائية على الإطلاق، وبعضهم يرى أنه فيلم سيئ جدًا، وأعتقد أن الرأي الأخير ظالم إلى حد كبير ففيلم بهذه القصص والتفاصيل يصعب أن يكون فيلمًا سيئًا، لذلك يمكن أن نناقش الرأي الآخر وهو أن هذا الفيلم هو أعظم أفلام السينما، وأعتقد أن هذا الرأي يمكن تبريره، وذلك لأن حتى من يكره الفيلم يكرهه في الأساس لشخصية معينة أو لبعض الأفعال في الفيلم، وقد حاول الفيلم توصيل هذه الأشياء بهذا الشكل، لذلك بدلًا من كره هذه الأشياء وبعدها نكره الفيلم، يمكن أن نكرهها وبعدها يحسب هذا الكره لرصيد الفيلم وجودته، في النهاية يصعب تقديم رأي واحد ونهائي عن أي عمل فني، أما هذا الفيلم فيصعب تقديم رأي فيه من الأساس، سواءً كان رأيًا مادحًا أو كارهًا.
محمد إبراهيم جاد الله - أراجيك