✿ قصة من عالم البرزخ ✿♡ رحلة البقاء 2 ♡
الجزء 11
ومضت آلاف السنين...
أجل ألاف من سنين المحشر، وفي عرصته التي لا ظل فيها ولا ظليل، ومررت فيها بمواقف عسيرة غير يسيرة، وفترات مريرة طويلة جدا لقيت فيها ما لقيت من مرارة وآلام، وفي بعضها ذلة وانکسار، ولماء وجهي خزي واندثار.
كنت أخجل كثيرا، وتحرقني العبرة والحسرة عندما أرى أفراد من أقربائي في الدنيا، وقد نالوا درجات عليا ونور عظيم، وهم الآن في مقامات عالية.
والعجيب أنني كنت أحسبهم أناس بسطاء، إذ لم يكن ظاهر للناس قربهم من الله في دار الدنيا، ولا تحس لأعمالهم الصالحة ضجيجا ولا لخيراتهم إلى الناس حسيسا.
سالت احدهم وقد كنت انا الذي حثثته على التوبة في الدنيا، وتعاهدنا سويا على أن تكون توبتنا خالصة لله، سألته عن أي شيء أوصله إلى هذا المقام؟ فأجاب:
ــ لا تظن أنني نلت هذا المقام دون عمل وجهاد مع النفس و..
قاطعته، وقلت له:
ــ هل تذكر أنني أنا الذي فاتحتك بالتوبة إلى الله، وقد تعاهدنا عليها، وبدأنا بها في وقت واحد، فبماذا افترقنا؟
ــ صحيح ما تقول، لكنك لم تجاهد نفسك كما ينبغي، ولم تمنعها من الرياء الذي كان يخالط الكثير من أعمالك. كنت تعمل قربة إلى الله، لكنك لم تكن تراجع باطن قلبك، وتتفحص حقيقة نيتك، ولو فعلت ذلك وحاسبتها في وقتها، لوجدت أن عملك مشوب، ونيتك غير خالصة، ولرأيت هدفا اخر قد لصق به، واخترق صدق خلوصه.
شكوت إليه طول الفترة التي مضت في المحشر، فتعجب من كلامي، وقال:
ــ لقد كانت مدة قصيرة ولم أحس بطولها كما تقول، فعن أي شيء تتحدث؟
استغربت من جوابه، وقلت له:
ــ أتحدث عن الفترة من أول الحشر حتى ساعتنا هذه.
أطرق قليلا، ثم قال:
ــ أنت صادق فيما تقول يا سعيد. إن طول مواقف القيامة تختلف من شخص لآخر، وكل حسب درجته ومقامه، فبعض يحس به الاف بل ملايين السنين، وبعضهم لا يحس به كذلك، بل يمر عليه وكأنه نهر يقطعه، أو جسر يعبر فوقه، والخلق بهذا الأمر في تباين كبير...
سكنت الأصوات، وساد الصمت بين العباد حينما سمعوا نداءا كان معناه: يا معشر الخلائق ان العزيز الجبار يقول: (يا بني آدم إن صراطي مستقيما منذ خلقتكم وقد أمرتكم به، وقلت لكم أكثروا من الزاد إلى طريق بعيد، وخففوا الحمل فالصراط دقيق(1)، فمن سار عليه في دنياه نجي عندي، ومن أعرض عنه، ووضع فيه العقبات فعليه اليوم أن يتجاوزها).
كان لكل واحد من أهل المحشر أمل بتجاوز عقبات الوصول إلى جنة الخلد، والذي زاد من ذلك أن الجنة بدت للجميع فرأوها، واشتاقوا لها. ولولا خلود عالم القيامة لمات الجميع شوقا لها!
إنطلق الجميع أملا باقتحام عقبات الجنة وتجاوزها، وانطلقت أنا معهم.
يا له من أمر عجيب! ومنظر غريب! جلب أنظار الخلق أجمعين، دهشت أنا أيضا مما شاهدته، وسألت عملي الصالح عن أولئك الأشخاص ذوي الأنوار العظيمة الذين اقتحموا العقبات، ثم قطعوا الصراط كالبرق الخاطف في سرعتهم، ليقفوا على أبواب الجنان، ثم يتعالون ويستقرون فوق أعرافها، فقال:
ــ أول تلك الأنوار هو الرسول الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتبعه أوصيائه بعده، ثم الأنبياء أولوا العزم وسائر الأنبياء ثم أوصيائهم، وتلك سيدة نساء العالمين يحاذي نورها نور خاتم الأنبياء. وتلك مريم العذراء مع مجموعة من النساء اللواتي كن من أفضل نساء عالم الدنيا في المرتبة بعد الزهراء البتول. لقد أزالوا كل العقبات في دنياهم، ولم يتركوا واحدة تعيقهم الآن من الوصول إلى الهدف والغاية من خلقهم، إلى رضوان الله وجنة لقائه…
اشتقت كثيرة للقاء تلك الأنوار، ولكن أين مقامي من مقامهم، وأنا لازلت في أول الطريق. عدت ثانية إلى عملي الصالح متسائلا:
ــ وما هذا المكان المرتفع الذي وقفوا فوقه؟
ــ انه مكان مرتفع من الجنان، يشرف على الجنة والنار، ويقال له الأعراف..
قاطعته مستغربا:
ــ الأعراف؟! وماذا يفعلون في مكان كهذا؟
ــ انه مقام وهبه الله لهم، وقد أوكل إذن ورود الجنة لهم، فهم الشهداء على أفعال الخلق، ويعرفون ظواهرهم وبواطنهم.
أطرقت قليلا، ثم استأنفت الحديث معه بسؤالي منه:
ــ أيكونوا هم من قال الله تعالى عنهم:(وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ)(2)؟
ــ نعم، فهم الرجال الذين يعرفون أهل النار بسيماهم، وأهل الجنة بسيماهم، وهذه المعرفة إنما هي بحقائقهم وصورهم الباطنية ودرجات استحقاقهم للجنة أو النار.
ــ وهل لهم حق الشفاعة في هذا الموضع؟
ــ نعم، في هذا الموضع تكون شفاعتهم،
ولكن لا ينالها منهم إلا من ارتبط بهم في دنياه، وعرفهم وعرفوه، واتبع سبيلهم، وخطى بخطاهم.
كنت أرى بعد الوجبة الأولى أناس يقتحمون عقباتهم بسهولة، بالغة ثم يعبرون الصراط(3) فرادا فرادا، ويصلون إلى الجنان، ولكن ليسوا بمرتبة رجال الأعراف.
نظرت إلى نفسي وقایستها مع أولئك، فرأيتها تعتصر ألما، وتحترق حسرة على ما فرطت في دنياها، تتطلع للجنان تارة، ولعقبات طريقها تارة أخرى، أرى المسير وعرا جدا، ولا اعلم متى تكون نهايته والى أين؟
أيطول عشرات أم مئات أم آلاف من السنين؟ والأسوء من ذلك أني لا اعلم أن الوصول في نهاية الطريق سيكون للجنة أم للنار؟
على كل حال، لا بد من البدء بالرحيل…
كانت الصلاة أول عقبات الطريق، وقد مكثت في محطاتها عددا من السنين حتى تم تحميلي بكل ما قصرت بحقها، كما أن صورة صلاتي الحقة قد تجسمت وحضرت لتزيل عني بعض أشواك طريق اقتحامها، وألقت باللوم علي أن لم أراعي أدائها في أوقاتها، ولم أستحيي من ربي حين الوقوف بين يديه فيها، إذ كان فكري يهرب منه هنا وهناك!
قلت لها:
ــ كنت كلما حاولت أن أحفظ طائر الخيال في الصلاة أن لا يهرب مني لم أجد جدوى في ذلك، وما أشعر إلا وقد ذهب الفكر إلى أمر من أمور الدنيا، ثم يجول من غصن إلى غصن فيها تارکا بدني يقيم الصلاة وحده، دون حضور للقلب معه.
أجابتني الصلاة وقد أنكرت علي كلامي، وأبطلت حجتي:
ماذا سيحل بسعيد هل سينجوا من عقبة الصلاة .. هذا ما سنرويه لكم غدا..؟
فانتظرونا غدا مع الجزء الثاني عشر ان شاءالله تعالى