قلْبي وسَمْعيَ في شُغْلٍ عنِ الفَنَدِ
فأقْصِرِ اللّوْمَ عَنّي اليومَ أوْ فزِدِ
قد كُنتُ أصْغي لما تُوحي إليّ بهِ
لوْ كانَ قلْبي قبْلَ اليومِ طوْعَ يَدي
وكمْ كتَمْتُ وأسْرَرْتُ الهَوى زَمَناً
طَيَّ الجوانِحِ حتّى خانَني جلَدي
وشِيمَةُ النّفْسِ إنْ أخْفَتْ سَريرَتَها
بدَتْ شَواهِدُها يوْماً على الجَسَدِ
قالُوا الهَوى بعْدَ بُعْدِ الدّارِ مُنْتَكَثٌ
فقُلْتُ هذا قِياسٌ غيرُ مُطَّرِدِ
سَلوا عنِ الحُبِّ منْ قَلْبي مُجرِّبَهُ
فَما المُقَلِّدُ يوماً مثْلَ مُجْتَهِدِ
سَقى الإلاهُ زَمانَ الوصْلِ صوْبَ حَيا
جَوْنِ الرّبابةِ لا نَزْرٍ ولا ثَمِدِ
وجادَ رَبْعاً على أكْنافِ كاظِمةٍ
كُنّا بهِ منْ لَذيذِ العيْشِ في رَغَدِ
والكأسُ تُجْلى عَروساً في مِنَصَّتِها
والرّوْضُ يرْفُلُ في أثْوابِهِ الجُدُدِ
وكلّما راشَ قبْلَ القَطْرِ عارِضُهُ
تدرّعَ النّهْرُ مَصْقولاً منَ الزّرَدِ
والسُّحْبُ تَبْكي وثغْرُ الزّهرِ مُبْتَسِمٌ
والنّرْجِسُ الغَضُّ ساهٍ والغَمامُ نَدي
عُهودُ أُنْسٍ وأيّامٌ لَنا انْصَرَفَتْ
أخْنى علَيْها الذي أخْنى على لُبَدِ
ما للزّمانِ رَمَتْ نَحْوي نَوائِبُهُ
فأقْصَدتْني بِلا عَقْلٍ ولا قَوَدِ
وسَدّدَ الدّهْرُ دوني كلَّ شاحِبةٍ
زَرْقاءَ أصْمى شَباها فِلْذَةَ الكَبِدِ
سَطا عليّ وقدْ قلَّ النّصيرُ وهَلْ
يُرْجى الغَناءُ لدَى كَفٍّ بِلا عَضُدِ
وسارَ أبْناءُ دَهْري فيَّ سِيرَتَهُ
ويُشْبِهُ الأبَ حقّاً مُنْجَبُ الولَدُ
تَخِذتَهُمْ عُدّةً للدّهْرِ فانْقَلَبوا
وهُمْ عليّ لدَهْري أعْظَمُ العُدَدِ
مَن مُنْصِفٌ بيْنَ آمالي وغايَتِها
فقدْ تجاوزْنَ في مَطْلي على الأمَدِ
كأنّي لمْ أُنِطْ بالنّجْمِ منْ هِمَمي
ولمْ أسِرْ في المَعالي سيْرَ مُتّئِدِ
ولا اتّخَذْتُ منَ الأنْصارِ لي وَزَراً
فكانَ يوسُفُ بعْدَ اللهِ مُعْتمَدي
ولا نَظَمْتُ على لَبّاتِهِ مِدَحي
نَظْمَ الحُليِّ على لَبّاتِ ذي غَيَدِ
خليفَةٌ منْ صَميم العُرْبِ دوْحَتُهُ
فيها انْتَهى المجْدُ مُسْتَوْفىً ومنها بُدي
في كَفِّهِ لبَني الآمالِ بحْرُ نَدىً
عذْبُ المَذاقَةِ هيْنٌ غيرُ ذي زَبَدِ
لوْ أنّ راحَتَهُ فاضَتْ أنامِلُها
في الغيْثِ لمْ يَقْتَصِرْ يوماً على بَلَدِ
إنْ أبْهَمَ الخَطْبُ أذْكى في دُجُنّتِهِ
رأياً يُفَرِّقُ بيْنَ الغَيِّ والرَّشَدِ
وإنْ عَدا الدّهْرُ أبْدى منْ أسرَّتِهِ
وكَفِّهِ رأْيَ حيْرانٍ ورَيَّ صَدي
وإنْ نظَرَتَ الى لأْلاءِ غُرّتِهِ
يومَ الهِياجِ رأيْتَ الشّمْسَ في الأسَدِ
حتّى إذا محّصَ اللهُ القُلوبَ بها
ولا دِفاعَ لِحُكْمِ الواحِدِ الصّمَدِ
وَقَفْتَ والرّوْعُ قدْ ماجَتْ جَوانِبُهُ
بحَيْثُ لا والِدٌ يلْوي على ولَدِ
وصَلْتَ يوْمَ التَقَى الجَمْعانِ مُنْصلِتاً
كالصّقْرِ في السِّرْبِ أو كاللّيثِ في النّقَدِ
فأصْبَحَ الدّينُ لا تَخْفى مَعالِمُهُ
وأصْبَحَ المُلْكُ مرْفوعاً على عَمَدِ
إنّ الحُروبَ سِجالٌ طالَما وَهَبَتْ
في اليومِ فُرْصَتَها واسْتَرْجَعَتْ لِغَدِ
لا يَغْرُرِ الرّومَ ما نالُوا وما فَعَلوا
فإنّ ذلِكَ إمْلاءٌ الى أمَدِ
فلِلقُلوبِ من الغَمّاء مُنْصَرفٌ
بِما تقدّمَ في بَدْرٍ وفي أحُدِ
وإنّ دونَ طِلابِ الثّأرِ أُسْدَ وَغَى
منْ قوْمِكَ الغُرِّ أو آبائِكَ النُّجُدِ
قد أقْلَقوا كلَّ مَشْحوذِ الغِرارِ الى
شَنِّ الغِوارِ وسَلّوا كلَّ ذي مَيَدِ
والعزْمُ بادٍ وصُنْعُ اللهِ مُرْتَقَبٌ
والفَتْحُ مُنْتَظَرٌ إنْ لمْ يَحِنْ فَقَدِ
وعادَةُ النّصْرِ لا تَسْتَبْطِ مَقْدَمَها
إنْ لمْ تُوافِكَ في سبْتٍ فَفي أحَدِ
وهاكَها منْ بَناتِ العُرْبِ ساحِرَةً
هيْفاءَ تَخْتالُ بيْنَ الدّلِّ والغَيَدِ
ولسْتُ يوماً على شِعْرٍ بمُقْتَصِرٍ
ولا بأبْياتِ منْظومٍ بمُنْفَرِدِ
وإنّما أنا روْضٌ والعُلومُ لهُ
غيْثٌ فإنّي جَنى إنْ شِئْتَهُ تَجِدِ
بَقيتَ في ظِلِّ مُلْكٍ غيْرِ منْصَرِمٍ
مُصاحَبٍ غيْرِ محْصورٍ الى أمَدِ
لسان الدين ابن الخطيب.