تعدُّدُ مَعاني اللفظ الواحد على ضُروب؛ فمنها اللفظُ الحَمَّالُ الأوجه من المَعاني، وهذه المعاني المُحتَمَلَةُ مُتعاقبةٌ إن ترجَّحَ مَعْنىً غابَت المَعاني الأخرى، ومنها المَعاني المتضادَّةُ التي يدلُّ عليْها هذا اللفظُ ويُرجّحُ السياقُ اللفظَ المناسبَ، والذي يَعْنينا في هذه المَقالَة ضربٌ آخَر غير الذي ذكرْنا؛ فكثيرٌ من كَلِمِ اللغة العربيّة تَمتازُ بمِيزةٍ دلاليّةٍ اكتسبتْها من المُعْجَمِ الذّهني للناطقينَ بها؛ فتَجدُ الفعلَ مَثلاً يدلُّ على حَرَكاتٍ لا حركةٍ واحدةٍ، وأحداثٍ لا حَدَثٍ واحدٍ، وكلها تجتمعُ في الفعلِ الواحد من غَيْرِ حاجةٍ إلى ألفاظٍ مُساعدةٍ تُعينُ على حَملِ الأثقالِ الدّلاليّةِ الطّارئَة؛ من ذلك فعلُ "وزع" الذي يدلُّ في الأصلِ على كَفِّ النَّفْس عن هَواها، وزَعَه ووَزعَ به يَزَعُ ويَزِعُ وزْعاً كفَّه فاتَّزَعَ هو أَي كَفَّ. ووزعَ الجيشَ إِذا حَبَسَ أَوَّلَهم على آخرهم، أَي رَتَّبَهُم وسَوّاهُم وصَفَّهُم للحربِ فكأَنه يَكُفُّهم عن التفَرُّقِ والانْتِشارِ. وفي حديث أَبي بكر رضي الله عنه أَنّ المُغِيرَةَ رَجُلٌ وازِعٌ يريد أَنه صالح للتقدّم على الجيش وتدبيرِ أَمرهم وترتيبهم في قتالهم وفي التنزيل: "فهُم يُوزَعُونَ" أَي يُحْبَسُ أَوّلُهم على آخِرهم...
فلاحظْ كيفَ أنّ الفعلَ وزع إذا بُنيَ للمَفْعولِ ازدادَ امتلاءً بالمَعْنى: الكَفُّ أو الحَبْسُ + الحرصُ على الْتحاقِ الأخيرِ بالأوَّلِ + الحرصُ على التَّنظيمِ. فذلكَ من خَصائصِ بعض الكلمِ في العربيّةِ ، ويُمكن تسميتُها الكَثافَة الدَّلاليّة في الكلمة المُعجميّةِ ، وهي صفةٌ بلاغيّة تتّصلُ بالإيجازِ والجَمْعِ؛ وإذا فصَّلْنا الأمرَ وجدْنا أنّ المَعاني الكثيرةَ المُتضَمَّنةَ في اللفظِ الواحدِ مَفاهيمُ قائمةٌ في المُعجم الذهنيّ الذي يَحملُه المتكلّمُ في ذهنِه ويَصدرُ عَنه، فالمتكلّمُ ينتزعُ المَعاني المتعدّدةَ ويربطُ بيْنَها ويَنتقي لَها اللفظَ الجامعَ الذي يَأسِرُها ويَصوغُها في بناءٍ جاهزٍ.