بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد…
فهذا الكتاب من آثار الشيخ عبد القادر الجيلاني المتوفى سنة إحدى وستين وخمسمائة هجرية ،العالم الحنبلي المشهور والولي الصالح المعروف ،الذي وُصف بأنه كان يتكلم في ثلاثة عشر علماً[1]، بل قيل عنه: هو أحد أذكياء الفقهاء، حُكي أنه سئل في رجل حلف بالطلاق الثلاث أنه لابد أن يعبد الله عز وجل عبادة ينفرد بها دون جميع الناس في وقت تلبسه بها فماذا يفعل من العبادات؟ فأجاب على الفور ،يأتي مكة، ويُخلى له المطاف، ويطوف سبعاً وحده، وينحلُّ يمينه ، فأعجب علماء العراق ،وكانوا قد عجزوا عن الجواب عنها [2].
أما الكتاب “الفتح الرباني”فقد ضمنه الحكم الراقية والمواعظ النافعة ،وذلك ضمن مجالس ألقاها على تلامذته استغرقت سنتين، قامت بطبعه دار الكتب العلمية ،سنة 1403هـ، وهي طبعة رديئة سقيمة ،قرأت فيه كثيراً في فترات زمنية متقطعة ،متطلعاً إلى لغته وتراكيبه ،التي ساقها في أساليب وعظية ،فبدت لي المظاهر اللغوية الآتية :
1- أدخل الشيخ (أل) التعريف على العدد المضاف دون المضاف إليه، كقوله: الخمس خصال [3]والواجب عند البصريين إدخال(أل) على المضاف إليه فيقال: خمس الخصال، وعند الكوفيين: الخمس الخصال، قال الأشموني مشيراً إلى المذهبين: فإذا كان العدد مضافاً وأردت تعريفه، عرفت الآخر وهو المضاف إليه، فيصير الأول مضافاً إلى معرفة قتقول: ثلاثة الأثواب ومائة الدرهم ،وأجاز الكوفيون الثلاثة الأثواب [4]،ويستأنس للشيخ أن ابن مالك ذكر في شرح التوضيح ما يفيد أن مثل هذا الاستعمال قد ورد في بعض الأساليب الراقية ،من ذلك قول أبي هريرة رضي الله عنه “ثم قدم الذي كان أسلفه ،فأتى بالألف دينار، ومنه: قام فقرأالعشر آيات ،ووجه ابن مالك ذلك على ثلاثة أوجه:
أحدها – قال وهو أجودها – أن يكون أراد بالألف ألف دينار عل إبدال ألف المضاف من المعرّف بالألف واللام، ثم حذف المضاف –وهو البدل – لدلالة المبدل منه عليه، وأبقى المضاف إليه على ما كان عليه من الجر فصار التقدير: بالألف ألف دينار، وكذا العشر آيات، يُحمل على أن المراد فقرأ العشر عشر آيات على البدل ثم حذف البدل ،وبقي ما كان مضافاً إليه مجروراً [5].
والوجه الثاني :أن يكون الأصل جاء بالألف الدينار ،والمراد بالألف هنا الدنانير فأوقع المفرد موقع الجمع ،ثم حذف اللام من الخط لصيرورتها بالإدغام دالاًفكتب على اللفظ كما كتب “وللدار الآخرة في الأنعام على صورة :ولدار الآخرة
والوجه الثالث: أن يكون الألف مضافاً إلى دينار ،واللف واللام زائدتان ،فلذلك لم يمنعا من الإضافة [6].
وأفاد الدماميني –فيما يبدو – مما عرضه ابن مالك ،ورد القول بزيادة أل ،قال الصبان:وأما ما وقع في صحيح البخاري في باب الكفالة في القرض والديون ،”ثم قدم الذي كان في أسفله ،وأتى بالألف دينار “فأوله الدماميني بتقدير مضاف مبدل من المعرّف أي بالألف ألف دينار قال: ولا يقال: إن أل زائدة، لأن ذلك لا ينقاس [7].
وقبل عباس حسن هذا الأسلوب لورود هذا السماع به، ونقل عن الشهاب الخفاجي قوله: إن ابن عصفور أجازه على قبح، ونقل ماذكره ابن مالك وأضاف: أن هذا الأسلوب ورد في نصوص أخرى تصلح للاستشهاد واستعمل في كثير مما يستأنس بكلامهم وإن لم يكونوا من أهل الاستشهاد، وفي العصر الحاضر يقال: الألف قرش ومشروع الألف كتاب، وانتهى من ذلك إلى القول: فلكل ما سبق يجوز قبوله مع الاعتراف بأنه غير مستحسن، وأن الخير في تركه، ووصف تخريج ابن مالك بأنه تكلف ظاهر لاداعي له [8]،والحق أنه لاتكلف فيه فقد ورد منه شواهد كقول الراجز:
الآكل المالَ اليتيم بطراً *** يآكل ناراً وسيصلى سقَرا
أراد بآكل المال مال اليتيم ، ومثله قول الشاعر:
المالُ ذي كرمٍ تنمى محامدُه *** ما دام يبذله في السرِّ والعَلَن ِ
أراد المال مال ذي كرم [9]
2- أسقط الشيخ الفاء من جواب أما، وذلك في قوله: أما في القرب السكوت ُوالخمودُ والقناعة بالنظر والتمتع به [10]ولا شك أن سقوط الفاء ليس بالفصيح العالي، لكنه يُخرَّج بدخولها على قول محذوف، والتقدير: أما في القرب فيقال السكوت….إلخ، وقد أورد ابن مالك شواهد كثيرة سقطت فيها الفاء، تؤنس بقبول هذا الأسلوب “منها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما بعد ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله ” وقوله صلى الله عليه وسلم: أما موسى كأني أنظر إليه إذ انحدر في الوادي “وقول عائشة رضي الله عنها: وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة طافوا طوافاً واحداً” ومن حذفها في الشعر قول الشعر:
فأما القتالُ لاقتالَ لديكم *** ولكن ّسيراً في عراضِ المواكبِ
أراد فلا قتال لديكم فحذف الفاء لإقامة الوزن، ثم قرر أنه قد خولفت القاعدة في هذه الأحاديث فعلم بتحقيق عدم التضييق، وإن من خصه بالشعر أو بالصورة المعينة من النثر مقصر في فتوته عاجز عن نصرة دعواه [11].
3- صغر ليلة على لُويلة ثم جمعها على لويلات [12]وهذا التصغير ليس بقياسي، فليلة تصغر قياساً على لُيَيلة، وجمعها لُييلات، وسمع تصغيرها على لُيَيْلِيَة، والقياس كما ذكرنا هو لُييلة [13]أما يوم فقد استعمله الشيخ متفقاً مع القياس، فقال: يو يمات [14]أي صغرها على يُويم ثم جمعها.
4- جمع جبان على أجبان، وهو لم يُسمع البتة، وفعَال يجمع على فعلاء قياساً أي على جبناء [15]وجمع داء على أدياء [16]ولم يُسمع ألبتة والمشهور أدوية وأدواء ،ولعله خطأ طباعي.
5- لم يحذف الياء من الفعل المسند إلى الجماعة فقال: يستحيون، وصوابه يستحون [17].
6-استعمل الشيخ كثيراً صيغة الفعل تمفعل، مريداً بها تكلف الشيء والتظاهر به، من ذلك قوله “يامن تمشيخ وتصدر وزاحم الشيوخ المخلصين[18] ومثل ذلك قوله “ولا تتمقدروا عليه ولا تتمعقلوا عليه ولا تردوا تدبيره [19] ومن ذلك قوله “لولاك –أي لولا المال الذي معه في هميانه لما تمندلوا[20] أي لما تمسحوا به، وحديث الصرفيين عن تمندل معروف ،فبعضهم عده من الملحق بتدحرج لكن رأي الكثيرين منهم أن الميم زائدة والأولى أن يقال: تندّل [21].
7- نعثر في الكتاب على كثير من العبارات اللغوية التي لاتزال مستعملة في حياتنا الحاضرة من ذلك قوله: نشف الماء -[22] خرم الإبرة [23]- نم على العتبة [24]- أنت تقرصك بقة تقوم قيامتك [25]- عمال في أمور الدنيا بطال في أمور الآخرة [26]-بيت الماء [27](أي بيت الخلاء)- المزبلة -[28] لعين تكرم ألف عين، وإذا صرت كريماً أكرم لأجلك ألف عين [29]- أنت تتكلم على الناس، وبعدُ عملك سخام [30]-والسخام في اللغة سواد القدر [31]،تقول الأم لابنتها اليوم بعد غسلها الصحون مثلاً ولم تنظفها تماماً: شغلك سخام دستٍ، والدست الإناء الكبير المبطن بمادة تحتمل الحرارة توضع فيه ما يُراد طبخه وصهره [32] -يا ابن دايتي [33]–أي المولدة – لا يطلب الغنى –أي المؤمن – بدينه وبريائه ونفاقه وتنمُسه [34]والتنمس التغير ،يُقال :فلان نمس أي فيه مكر ودهاء كتلك الدويبة التي تقتل الثعبان إذهي حين تتعرض له تتضاءل وتدق حتى كأنها قطعة حبل فإذا انطوى عليها الثعبان زفرت وأخذت بنفسها فانتتفخ جوفها فيتقطع الثعبان، [35] -والفرجة والبرية والمتعيش[36]، وغير ذلك كثير.
8-استعمل (المِقدحة) [37]مريداً بها اسم الآلة، وهو مطرد لكن الأكثر استعمالاً الآن هو (القداحة).
9- استخدم الفعل (اكبش) بمعنى (خذ وانسج) قال: لاتستعر كلمات الصالحين، وتتكلم بها وتدعيها لنفسك، العارية لاتخفى، اكبش من مالك لا من العارية، ازرع القطن بيدك، واسقه بيدك، وريه بجهدك، ثم انسجه وخيطه والبسه [38] ولم أقف على لفظ الفعل (كبش) بهذا المعنى فيما اطلعت عليه من المعاجم اللغوية ،غير أني ألفيت في اللسان نقلاً عن ابن السكيت أنهم قالوا: ثوب أكباش،قالوا: وهي من برود اليمن ،وقيل بالسين “[39] فالظاهر أن (اكبش) مشتق من الاسم الجامد (الكبش) والاشتقاق من أسماء الأجناس مقصور على السماع ونادر [40].
10- ومن استعمالاته اللغوية التي لانسمعها الآن قوله، تتخارس بمعنى تخرس وتتكلف هذا التخارس قال: وعلى قدر ضعفه –أي ضعف إيمانك –تقعد في بيتك ،وتتخارس عن إزالتها – أي إزالة المنكرات [41] ومن ذلك يتطارش الوارد في قوله: الأولياء يتعامون عما يرون من الخلق، ويتطارشون عما يسمعون منهم [42]ومن ذلك قوله :الكدية من الخلق كا لكدية منهم باللسان عندي [43]أي السؤال، ومع شهرتها فلا تكاد نسمعها أو نقرؤها في عصرنا الحاضر، قال صاحب القاموس :وأكدى بخل أو قلَّ خيره، أو قلل عطاءه ككدى ،وسأله فأكدى أي وجده، والكدية شدة الدهر [44] الداعية إلى السؤال.
وفي الحق يرى من يتصفح الكتاب أن الشيخ استطاع توظيف اللغة بما يتفق مع وعظه وإرشاداته، ولا نعدم فيه ما يتصل بفقه اللغة فعنده أن السريانية هي لغة آدم، والناس ستحاسب بها، لكنهم إذا دخلوا الجنة تكلموا بالعربية، بلغة محمد صلى الله عليه وسلم [45] وقد استخدم ألفاظاً أعجمية كثيرة منها: البهرجة – الزنار – الجهبذ – البنج واشتق منه فعل تبنج – دهليز- زنبيل – روز كاري ومعناها: المستأجرون – الجامكيتي ومعناها الراتب والأجرة – والدست والقهرمانة – والأستاذين جمع أستاذ [46]وما أكثر شروحه اللغوية لكثير من المفردات والتراكيب التي يذكرها كقوله في تربت يداك: يعني افتقرت ،وأترب الرجل إذا استغنى ” [47]وأخيراً: إن لغة الكتاب تمثل مرحلة من مراحل التطورات الدلالية التي مرت بها العربية ،كما تمثل بدقة أساليب الوعظ والإرشاد .