العلماء كما هو معروف في الحديث النبوي هم ورثة الأنبياء، وهم من النخبة التي تصون الدين والدنيا، والمجتمع والدولة، والجماعة والأمة، فهم حراس الشريعة الساهرين على إقامة العدل والحق، كما لهم أسماء لا تحصى في تراثنا الإسلامي في شتى الحقول والميادين المعرفية، وقد حفظ لنا التاريخ الكثير من العلماء الذين ساهموا في إحداث تغيير مسار أحداثه تأسيسًا وتكريسًا لحضارتنا، وسنتطرق في هذا المقال إلى نماذج من بعض هؤلاء العلماء الذين انتهت سيرتهم إلى نهضة فعلية وصحوة عملية في فترات معينة من تاريخنا.
عبد الله بن ياسين
عن طريق رجل واحد ظهر المرابطون في ساحة التاريخ، وهذا الرجل هو الفقيه المالكي عبد الله بن ياسين الجزولي، الذي كان يعيش في منطقة سوس جنوب المغرب الأقصى، واختاره أستاذه لمرافقة يحيى بن إبراهيم الجدالي الذي كان يبحث عن أحد الشيوخ الدعاة، ليعلم القبائل الصنهاجية في صحراء بلاد شنقيط الإسلام الصحيح.
وافق عبد الله بن ياسين على هذه المهمة، ورافق الزعيم الصنهاجي يحيى إلى الصحراء وبذل جهدًا كبيرًا في القيام بالتعليم وشحن الهمم، ونجح في أن يجعل من الصنهاجيين قوة عسكرية سماها المرابطون وذلك في سنة 445هـ= 1053م، واستطاع بذلك عبد الله بن ياسين الزحف إلى الجهاد ضد طوائف الوثنيين والشيعة والخوارج، والخارجين عن الإسلام بشكل عام، واستمر عبد الله بن ياسين في قتاله إلى أن سقط شهيدًا في سنة 451هـ= 1059م.
وبذلك يكون الشيخ عبد الله بن ياسين قد أسس حركة المرابطين التي تبنت دعوته، ليخرج من هذه الحركة بعده رجال عظام ساروا على نهجه، كأبي بكر بن عمر اللمتوني، ويوسف بن تاشفين الذي قام بتحويل الحركة المرابطية إلى دولة كبرى ذات حكم إسلامي رشيد في المغرب والأندلس.
أبي الوليد الباجي
كان من أكبر مآسي الأندلس التاريخية عهد ملوك الطوائف في القرن الخامس الهجري، المعروف بكثرة الانقسامات بين المسلمين ونزاعاتهم الأهلية وموالاة أمراؤهم للقوى المسيحية التي بدأت تتمدد على حساب الممتلكات الإسلامية، فكان ذلك حقبة من الضعف الشديد للأندلس الإسلامية، التي مزقتها دويلات الطوائف التي يتصارع ملوكها على مصالح عروشهم، ومن جهة أخرى فقد ظهر في هذه الفترة علماء أبوا السكوت عن هذه الفتنة الكبرى التي تهدد البلاد والعباد، وكان على رأسهم الفقيه الفذ أبي الوليد الباجي الذي قام في عام 440هـ، إلى مباشرة الدعوة إلى الوحدة، بعد أن رأى تفاقم التشرذم بين المسلمين في الأندلس، فبدأ التجوال في كل أنحاء البلاد من المدن والقرى والجهات، يدعو إلى الاتحاد ونبذ النزاع ويحذر من مغبة استمرار الأوضاع وعواقبها على مصير المسلمين، فكان يتلقى الترحاب في كل منطقة من أجل هدفه النبيل لتحقيق الالتحام والوحدة الإسلامية وصد العدوان النصراني المتنامي.
كان لدعوة الباجي أثر كبير في نفوس المسلمين في الأندلس، إذ أصبح يُتداول وجوب الاتحاد والاعتصام بحبل الوحدة والابتعاد عن الصراع والخصومات، فقد استمر نداء هذا العالم الفقيه ما يقارب ثلاثون سنة حتى توفي بمدينة ألمرية عام 474هـ.
ابن حزم الأندلسي
على عكس أبو الوليد الباجي الذي سلك طريق الدعوة والنصح، ظهر عالم آخر سَلَكَ طريقًا آخر، وهو ابن حزم الأندلسي صاحب التصانيف الشهيرة في العقيدة وعلم الكلام، والذي جاهر بمعارضته للوضع الطائفي في الأندلس، وانتقد بشدة ملوكها حتى أنه لم يكن يتردد في التصريح والقدح في فجورهم وموالاتهم للأعداء، وهذا ما جعله يتعرض للنفي ويُضيق عليه، وقد اشتهر بعبارته التي قال فيها:" والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم، لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى، فيمكنونهم من حرم المسلمين وأبنائهم ورجالهم، يحملونهم أسارى إلى بلادهم، وربما يحمونهم عن حريم الأرض وحشرهم معهم آمنين، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعًا، فأخلوها من الإسلام، وعمروها بالنواقيس، لعن الله جميعهم، وسلط عليهم سيفا من سيوفه".
وكأن يوسف بن تاشفين الذي أنهى حكم ملوك الطوائف في الأندلس هو هذا السيف الذي ذكره ابن حزم في دعائه، وبالتالي كان لابن حزم وأبي الوليد الباجي دور مؤثر في تهيئة الأجواء لاستقبال المرابطين في الأندلس، التي كانت مهددة بالسقوط الكلي بعد الاحتلال النصراني لطليطلة عام 478هـ، فأدى ذلك إلى دخول البلاد في حكم دولة المرابطين التي أمدَت من عمر الأندلس الإسلامية إلى ما يقارب أربعة قرون أخرى.
زين الدين الهروي
في أواخر القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، اصطدم العالم الإسلامي بالحملة الصليبية الأولى على المشرق، وعلى إثرها استطاع الصليبيون اختراق الأراضي الإسلامية، وارتكاب المذبحة الشنيعة غداة احتلالهم لبيت المقدس في سنة 492هـ= 1099م والتي قتلوا جميع من فيها من المسلمين، مما أدى إلى استياء علماء الشام من قنوط القيادات الإسلامية وتقاعسها عن الجهاد، وكان من أبرز هؤلاء العلماء قاضي دمشق زين الدين الهروي، الذي توجه مباشرة إلى بغداد عاصمة الخلافة، واستنكر على الناس هناك خنوعهم، وهو ما أدى به إلى مقابلة الخليفة والتصريح له بوجوب تجهيز جيش لطرد الصليبيين من القدس.
ابن الخشاب
لم يكن الهروي العالم الشامي الوحيد الذي تحرك، فقد ظهر ابن الخشاب فقيه حلب الذي بادر أيضًا بالسفر إلى بغداد فشكل هو ومن معه ورقة ضغط على الخليفة العباسي والسلطان السلجوقي الذي أصدر أمر إلى أتابك الموصل مودود بن التونتكين، الذي سارع بتجهيز الجيش والتوجه به نحو الشام.
وهكذا كان لكل من دعوة الشيخين الهروي وابن الخشاب بعد سقوط القدس في يد الصليبيين؛ أثر كبير في شحن النفوس والاستعداد لجهاد الفرنجة المحتلين، بدايةً بخروج جيش مودود ثم ظهور الأسرة الزنكية بقيادة عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود الذي عمل على توحيد الجبهة الإسلامية لدحر الجيوش النصرانية، ليظهر بعد ذلك صلاح الدين قائد الأيوبيين ومحرر القدس، لينتهي أخيرًا بالمماليك الذين استطاعوا القضاء على أفول الصليبيين بالشام في النصف الثاني من القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي.
العز بن عبد السلام
دخل العالم الإسلامي منتصف القرن السابع الهجري في خضم تحولات أصابته بعد الغزو المغولي القادم من جهة الشرق، والذي وصل إلى العاصمة بغداد فدمرها، وذلك تزامنًا مع تواصل الحملات الصليبية على المشرق، وقد سقطت الدولة الأيوبية وقام المماليك مكانهم وتصدوا لخطر المغول، وفي غمرة هذه التغيرات ظهر العز بن عبد السلام المعروف بسلطان العلماء، والذي كان له بالغ الأثر على مجريات الأحداث في تلك الفترة.
فبعد سقوط الدولة الأيوبية وقيام دولة المماليك في مصر، والذي تزامن مع تدمير الدولة العباسية واحراق بغداد سنة 656هـ، على يد التتار سيف الدين قطز قائد المماليك، هذا الأخير الذي هزم المغول في معركة عين جالوت سنة 658هـ=1260م، بدعم كامل من ابن عبد السلام، فكان انتصارًا مدويًا للمسلمين حطم أسطورة المغول، ليتوفى العز بن عبد السلام بعدها بعامين سنة 660هـ= 1262م.
ابن تيمية
ابن تيمية الملقب بشيخ الإسلام والفقيه المجدد صاحب التصانيف الكثيرة في الرد على الباطنية والزنادقة والرافضة، وذلك في الوقت الذي عاد فيه الخطر المغولي إلى بلاد الشام في عهد المماليك أواخر القرن السابع للهجرة، فكان ابن تيمية أكبر العلماء محرضًا على الجهاد ضد التتار، بل تصدر الصفوف الأولى في معركة شقحب الفاصلة، والتي انتهت بظفر للمسلمين على المغول عام 702هـ.
لم يكتفِ ابن تيمية هذا، بل كان له مواقف حازمة مناهضة لسياسة الدولة المملوكية آنذاك، وهذا ما أدى به إلى محنة عاشها في أخر عمره، حيث اعتقل ومات في سجنه عام 728هـ= 1328م، لكنه خلف وراءه تراثًا عظيمًا..
كانت هذه نماذج لعلماء أجلاء –على سبيل المثال لا على سبيل الحصر-صنعوا تغييرًا وخلفوا أثرًا، كما أن تاريخنا مليء بأسماء أخرى لعلماء قادوا الإصلاح وخرجوا إلى تشكيل صحوة، فكافحوا بعلمهم وسلاحهم في سيبل كلمة الله والدين القيم[1].
[1] المصادر: نقلًا عن موقع تبيان.
1- حسين مؤنس: معالم في تاريخ المغرب والأندلس.
2- رسائل ابن حزم: تحقيق إحسان عباس، الجزء الثالث، المؤسسة العربية للدراسات، 1987م.
3- فايد عاشور: جهاد المسلمين في الحروب الصليبية، مؤسسة الرسالة، بيروت.
4- ابن العديم الحلبي: زبدة الحلب من تاريخ حلب، تحقيق خليل المنصور الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت،1417هـ= 1996م.
5- محمد الرخيلي: العز بن عبد السلام، الطبعة الأولى، دار القلم، دمشق، 1412ه= 1992م.
6- ابن كثير: البداية والنهاية، تحقيق عبد الله التركي، الجزء الثامن عشر، الطبعة الأولى، دار هجر، 1419هـ= 1998م.