✿ قصة من عالم البرزخ ✿♡ رحلة البقاء 2 ♡
الجزء التاسع
أصبت بنكسة كبيرة وانكسار عظيم عندما راجعت نفسي، وتفحصت حالي، فوجدت أن نوري قد ضعف، وثقل سيئاتي قد كبر، وكفة حسناتي قد خفت، وبياض وجهي قد خالطه السواد...
أصبحت أرتجف كلما أرى شخصا يقبل نحوي أو يناديني، خوفا من أن ينتزع شيئا مما لدي. التفت إلى عملي الصالح، وقلت له:
ــ انطلقنا بحثا عن مظالم تنفعنا، ولكني أرى حصول خلاف ما تأملناه!
ــ عزيزي سعيد، المشكلة أنك تبت إلى الله توبة صادقة في الدنيا، ولكنك غفلت عن أداء حقوق الناس التي بقيت في عنقك، والتوبة لا تكون كاملة إلا بإرجاع كل حق إلى صاحبه وإن صغر، وأنت تعلم أن كل إنسان في المحشر بأمس الحاجة إلى زيادة رصيده من الحسنات، ولو كان بمقدار ذرة أو اقل منها، و (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِـّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ).
ــ وماذا أفعل الآن، وما هو حلك لهذه المشكلة؟
ــ كان الحل بيدك في الدنيا، وهو أن تذهب إلى كل واحد من هؤلاء وتطلب منه براءة ذمة أو توفيه حقه. وعلى كل حال لا تحزن، فانك لا زلت ضمن حدود درجة المؤمنين، ولم تبتعد عنها كثيرا.
طأطأت رأسي إلى الأرض، وقلت له:
ــ إني أخاف فقدان حتى هذه الدرجة، إني قلق جدا لما سيؤول إليه مصيري، وكيف يمكنني تجاوز خمسين موقفا من مواقف القيامة وتحملها، وأنا لا أطيق ساعة منها، وهل سأنجو بعدها، أم سأقع في هاوية النار، لا ادري...
وجرت دموعي مرة أخرى أسفا وحزنا على تقصيري وغفلتي في عالم الدنيا، إذ كنت غافلا عن أن حق الناس لا يسقط بالتوبة فقط، وصحيح أني عزمت على ترك المعاصي ورعاية حقوق الخلق، والتزمت بكلامي بيني وبين الله بعد إعلان توبتي، لكني نسيت تبعات الماضي ولم أسع لتصفيتها مع خلقه.
بقيت على هذه الحالة مدة طويلة، أرى كل مخلوق مشغول بنفسه عن غيره، بل يفر حتى من أهله وأخوته، ويهرب من أمه وأبيه، وزوجته وبنيه(1)، فلكل واحد منهم شأن يغنيه أما أنا فكنت أعيش بين الخوف من قلة رصيد الحسنات، وبين الأمل بالنجاة.. بل حتى ذلك الأمل صار ضعيفا يوم فوجئت بلقاء زوجتي في المحشر!
نعم، كانت تقصدني وتبحث عني، ولم يكن حالها أفضل من حالي. تمعنت فيها جيدا وتيقنت من شخصها... أجل هي آمنة أم مرتضى بعينها، والتي فارقت الدنيا أثر حادث سيارة يوم كان مرتضى صغيرا لم يتجاوز الرابعة من عمره.
سلمت عليها، وسألتها عن حالها، فأجابتي:
ــ ليت الموت أعدمني الحياة ياسعيد، وليتني لم أخلق في الدنيا لأعيش حسرتها الآن، وليت الـ...
لم تتمكن من إكمال جملتها التي نطقت بها، وجرت دموعها بغزارة، وارتفع صوت بكائها، فعلمت من ذلك شدة الألم والحسرة التي أصابتها، وما أن هدأت حتى سألتها:
ــ ولكن ما الذي تطلبيه مني؟ ولماذا تبحثين عني في صحراء المحشر؟
كانت مترددة في الجواب، وقد طغى على وجهها الخجل والحياء، ولكنها تغلبت عليه، وقالت:
ــ كنت أبحث عنك كي أخذ حقي منك.
ــ وما هو حقكِ عندي؟
ــ إن الله جعل للزوجة حقوقا على زوجها، وأنتَ لم تراعي الكثير منها، فهل كنت غافلا عنها؟ أم أنك انجرفت مع العرف السائد في مجتمعنا يوم ذاك، والذي يفرض على المرأة واجبات لم يفرضها الله عليها.
لم تعطني فرصة السؤال عن أي حقوق تتحدث، إذ استرسلت في كلامها، وقالت:
ــ أتذكر ياسعيد يوما دعوت فيه أصدقائك للعشاء في بيتنا، وطلبت مني تهيئة الطعام لهم، فتعذرت من ذلك لأني كنت متعبة جدا.
ــ نعم أذكر ذلك، وقد جلبت لهم الطعام من السوق، وما أجبرتكِ عليه.
ــ ولكنك جرحتني كثيرا بكلامك لي بعده، وأعرضت عني، ولم تكلمني ليومين لأني لم أهيء الطعام لهم، مع إن الإسلام يعتبر خدمات المرأة في منزل زوجها تطوعا وإيثارا منها، لا وجوبا عليها(2). سعيد: إنني لم أسمع منك كلمة شكر ولو بلفظ اللسان على ما اعمله في المنزل من الصباح إلى الليل، كما إني لم أطالبك قط بأجرة على عملي هذا، مع أن الإسلام كان يسمح لي بذلك. أهكذا كان ينبغي أن يكون جزائك لي مقابل كل أتعابي وخدماتي لك؟ لا بل الأكثر من ذلك أنك كنت تتعامل معي وكأني خادمة في بيتك، فتأمرني بجلب طعامك أو أوراقك أو حاجياتك التي كان بإمكانك أن تقوم وتجلبها بنفسك، والأعظم من ذلك انك كنت تغضب علي إذا تأخرت في جلبها، فهل هذا كان يتوافق مع الإسلام الذي كنت تعتنقه وتدافع عنه؟
نکست رأسي ولم أتمكن من الدفاع على نفسي، فبأي جواب أردها؟ وبأي كلمة أجيبها؟
وكل كلامها كان صحيحا، لذا التزمت الصمت، وأعطيتها بسكوتي هذا فرصة لاستئناف حديثها، إذ قالت:
ــ كنت أفتقد منك العون لي ببعض أعمالي في المنزل، إذ كان تكبرك يمنعك من ذلك، واستحيائك من الناس يحول بينك وبينه، ولا أعلم أي عيب فيه. ألم يساعد إمامنا زوجته فاطمة في منزلها بأعمال الطبخ وتربية الأطفال وغيرها؟ ألم يطرق سمعك قول نبينا لأمير المؤمنين بعدما رآه في البيت ينقي العدس، وفاطمة جالسة عند القدر إذ قال له:
(ما من رجل يعين امرأته في بيتها إلا كان له بكل شعرة على بدنه عبادة سنة صيام نهارها وقيام ليلها، وأعطاه الله من الثوب مثل ما أعطاه الصابرين)(3).
یاسعيد، أين كنت من كل هذا الثواب وأنت الآن في أشد الحاجة إليه، وأراك تبحث عن الحسنة من هنا وهناك، ومن فلان وفلان.
إحترق قلبي ألما وحسرة لما ضيعته من الثواب العظيم في الدنيا، ولما قصرت به من حسن العشرة مع الأهل والعيال، ولم تكتفي آمنة بهذا الحد من عتابها لي، إذ استأنفت كلامها مرة أخرى لتوقد شعلة الندم والحسرة أكثر في قلبي، فقالت:
ماذا سيحل بسعيد وهل ستاخذ زوجته منه بظلامتها.. هذا ما سنرويه لكم بعد غد..؟
فانتظرونا بعد غد مع الجزء العاشر ان شاءالله تعالى