إنّ المقصود بالقاعدة النحويّة فيما نبحث فيه هي القاعدة التي تشمل التركيب والصرف والأصوات. وممّا لا يخفى أنّ هذه المجالات أو المستويات المختلفة المشار إليها قائمة على قواعد نحويّة، ما يجعل هذه القواعد نسقا أو أنساقا هي التي يُبنى عليها النحو. والقاعدة النحويّة عبارة عن قوانين أو ضوابط أو أحكام تتحكّم في هذه الظاهرة أو تلك. والقاعدة النحويّة في عمومها مبنيّة على الاستقراء، وذلك انطلاقا من ملاحظة اللغة في حدّ ذاتها، أو الظواهر اللغويّة المختلفة التي يقرّها الاستعمال الشائع في لسان ما. والملاحظة في مجال العلم ضروريّة، لأنّ من شأنها أن تساعدنا على وصف الظاهرة، وضبط خصائصها المشتركة، وما ينضوي تحتها وما لا ينضوي، ومن شأنها أيضا أن تُوقفنا على ما هو مطّرد أو غير مطّرد. وبالاعتماد على اطّراد الظاهرة وإيضاح المفهوم المتعلّق بها، ومحاولة إيجاد ما يناسبها من تعريف أو تعريفات، تصاغ القاعدة بناء على جملة الأمثلة الجزئيّة، في محاولة لتطبيقها أو اختبارها على أمثلة كثيرة لإثبات مدى سلامتها أو صحّتها.
وتصاغ القاعدة على ما هو شائع صياغة أدبيّة، على النحو الذي عهدناه في آثار النحاة، فتجيء في عبارة موجزة دقيقة كي يسهل حفظها واستيعاب دلالاتها، والتثبت من مدى فاعليتها وشموليتها بتطبيقها على الأمثلة التي نعرف أو لا نعرف.
ومن باب التمثيل، ولتوضيح ما نروم توضيحه، نسوق القواعد التالية، وهي تتعلّق بمجال الصرف، أو بالتغيّرات الطارئة على الكلمات:
- تقول القاعدة الأولى: “حرف العلّة إذا جاء متحرّكا وما قبله مفتوح قلب ألفا”.
- وتقول القاعدة الثانية: “إذا جاءت الواو ساكنة، وكان ما قبلها كسرة أبدلت ياء”.
- وتقول الثالثة: “إذا التقى ساكنان يحذف ما سبق”.
هذه القواعد المشار إليها صيغت في كلّ حالاتها، مثلما هو ملاحظ، صياغة متشابهة. وهذه الصياغة تقضي بوجود معنى الشرط، وتَحقّقُ هذا الشرط يؤدّي إلى التغيير. والشرط من شأنه أن يبيّن السياق الذي تطبّق فيه القاعدة. وإذا ما انتفى السياق أو الشرط بطل التطبيق لا محالة. والسياق يُحدِّد العنصر المتغيّر، وما يسبقه وما يلحقه. من ذلك أن حرف العلّة (أي الواو أو الياء) في القاعدة المشار إليها أعلاه، يقلب ألفا عندما يكون مسبوقا بفتحة ومتبوعا بحركة، أي متبوعا بفتحة أو ضمّة أو كسرة، وذلك في أمثلة من نحو “قال” و”باع” و”خاف” و”كاد” و”طال”، التي أصلها /قَوَلَ/ و/بَيَعَ/ و/خَوِفَ/ و/كَيِدَ/ و/طَوُلَ/. ولا تطبّق هذه القاعدة على أمثلة من نحو “شيْخٌ” لأنّ الياء جاءت ساكنة، ولا تطبّق على “عُيَبَة” لأنّ ما قبل الياء جاء مضموما، ولا تطبّق على “عِوَضٌ” لأنّ ما قبل الواو جاء مكسورا. وتبعا لهذا لا تطبّق القاعدة إلّا في شروط محدّدة، موجبة للتغيير.
وأمّا طبيعة هذه القواعد إذا ما نظرنا إليها من منظور لسانيّ حديث فهي في مجملها قواعد إعادة كتابة، أي أنّ العنصر “أ” مثلا تُعاد كتابته بالعنصر “ب”، عندما يجيء في سياق يُحدّ يمنة ب “س” ويسرة ب “ع”. ومن باب الملاحظة لا يتعلّق تطبيق القاعدة بالسياق الموجب للتغيير وحده، وإنّما قد يتعلّق ببعض الشروط الأخرى الملازمة لها، وذلك من نحو تحديد مجال تطبيقها، أو الصيغ المطبّقة عليها، أو تجنّب تطبيقها في حالة اللبس الحاصل في الصيغة أو المعنى.
وكثيرا ما يُنزع من هذه القاعدة أو تلك القاعدة صفة الكليّة، وذلك لعدم تطبيقها على أمثلة قد تكثر أو تقلّ، نَصِفها عادة بالشواذّ، ولتدارك الأمر تسعى الصناعة النحويّة إلى تحسين صياغة القاعدة وتشذيبها لتقلّل من عدد الشواذ الملحقة بها، وهذا ما يجعل القاعدة الأساسيّة قاعدة ملازمة في الكثير من الحالات لقاعدة أو لقواعد فرعيّة من شأنها أن تحلّ معضلة الاستثناءات، أو التقليل منها على الأقلّ.
وإذا ما اعتبرنا أن قاعدة قلب حرف العلّة ألفا هي القاعدة الأمّ مثلا، فإنّنا سوف نعتبر أنّ القاعدة التي تقول: “يقلب حرف العلّة ألفا إذا جاء متحرّكا بالفتحة، وكان ما قبله ساكنا”، وذلك من نحو ما نجده في أمثلة من قبيل “استقال” و”استبان” و”يَخاف” و”يَكاد”، وهي قاعدة فرعيّة، تطبّق في سياقات غير السياقات التي تطبّق فيها القاعدة الأمّ.
وفي عرف النحاة أو علماء اللغة، يفسّر هؤلاء سبب تطبيق القاعدة أو تعليلها، بالرجوع إلى تعليلات تعود إلى الحسّ في الغالب، ولاسيّما بشأن الظواهر الصرفيّة الصوتيّة، وذلك من نحو الخفّة والثقل أو الالتباس، أو التوافق الصوتي وعدم الانسجام. وللاستدلال على هذا نشير مرّة أخرى إلى قاعدة قلب حرف العلّة ألفا، إذ يقول النحاة بخصوص هذه القاعدة، إنّ تطبيقها جاء نتيجة كره اجتماع الأمثال، واجتماع الأمثال يتحقّق في هذه الحروف المتحرّكة المتتالية، وتتالي هذه الحروف عندهم، أو بالأحرى عند المتكلّم المستمع ثقيل، وطالما أنّ هناك حرفا معتلّا في الكلمة قابلا للتغيير، فلا مناص من تغييره، أو قلبه إلى ما هو أخفّ منه أي إلى الألف.
عبد الحميد النوري عبد الواحد