✿ قصة من عالم البرزخ ✿
♡ رحلة البقاء 2 ♡
الجزء السادس
ذات مرة رأيت مشاجرة تبدو شديدة لكثرة اجتماع أهل المحشر حولها. اقتربت منها، ودهشت كثيرا عندما رأيت أن أفرادها ليسوا بغرباء عني، ويبدو أني أعرفهم! دنوت منهم أكثر، وتمعنت في صورهم ... يا إلهي ماذا آری! إنه جمال!!
نعم، إن ما أشاهده حقيقة لا خيال، هو جمال بعينه وشخصه. إنه جمال الذي كان سبب مفارقتي للدنيا بعد أن ألقي بي من سطح مبنى ذي خمس طوابق، والآخر الذي كان يتشاجر معه هو صديق له في العمل، ومعروف بسيرته الحسنة لدي ولدى سائر موظفي الشركة التي كنت أعمل مهندسا فيها. توقفت في موضعي، وما دنوت أكثر کي أصغي لهما.
قال جمال وهو في أبشع صورة، عاري البدن، أسود الوجه، نتن الرائحة، يقطر الدم من جروحه التي ملأت جميع انحاء جسده، وهو يتلوى ألما منها، قال لصاحبه:
ــ أنت الذي غررتني ودفعت بي إلى سرقة أموال الشركة دفعة بعد أخرى، حتى انكشف أمري، وقتلنا سعيد بسببها.
صرخ صاحبه في وجهه، وهو يقول:
ــ لا تقل قتلنا سعيدا، بل أنت قتلته، وأنت الذي كنت تأخذ جميع أموال سرقاتك، ولا تعطيني إلا القليل منها، و ...
قلت سبحان الله! هنا تنكشف الأسرار، وتظهر الحقائق المكنونة في الصدور، فجمال كنت أعرف سرقاته وقتله لي، أما الآخر فكنت أحسبه من المخلصين في عمله وتعامله، وقد ظهر الآن أنه شريك جمال في سرقاته!
تركتهما يتشاجران وانصرفت عنهما موكلا الأمر إلى الله، وقلت: ربي أريد العدل والقصاص منهما، فأنت الشاهد وأنت الحاكم.
كانت نار جهنم تزفر بلهيبها بين فترة وأخرى على أهل المحشر، فيبلغ حرها الأجواف، وتسيل لها الأعراق، وتذوب لشدة حرارتها الجلود، وكل يتألم حسب درجته ومقامه.
لقد كان عسيرا جدا المكوث لحظة واحدة في تلك العرصة، ونحن في أول موقف من مواقف القيامة الكبرى، فكيف: بي ومدته تطول ألف سنة، أم كيف بي في المواقف الأخرى التي تليه حتى الخمسين(1).
جفت دموعي من شدة البكاء على نفسي، فأصبحت أبكي دما، وما رأيت قبل هذا الموقف أحدا يبكي دما، ولكني بكيت...! أسفا على لحظات الدنيا التي انقضت ولم أستثمرها كما ينبغي، ولم أتزود منها بالزاد الوافي لهذه المواقف والأيام كل من في المحشر مشغول بنفسه، فلا أحد من الجن أو الإنس، ولا من الملائكة ينظر إلي فيسألني عما بي، أو يترحم علي، سوى عملي…
قلت لعملي الصالح:
ــ بالله عليك قل لي شيئا يهون علي ما نزل بي، ويطمئن قلبي الملتهب حسرة وندما.
قال:
ــ إن شاءالله ستنال الشفاعة في آخر المطاف، وسأقودك حينها إلى الجنة، فإن لدي الأمل بذلك.
سألته مستغربا:
ــ ومتى يكون ما تقوله؟
طأطأ رأسه، وقال:
ــ ان ذلك لا يكون إلا في آخر موقف من مواقف القيامة الكبرى(2)، إذ لا سبيل لها الآن.
ــ إنك لم تطفئ ناري المشتعلة في أحشائي، أن قلبي يلتهب الآن، وتقول أني أنال الشفاعة بعد خمسين ألف سنة!
قال وقد أحسست عليه الانكسار من عتابي له:
ــ ياعزيزي، إنك تعلم أني خلاصة أعمالك الصالحة، وملكاتك الحسنة، فلا تتوقع مني أكثر مما ادخرته لنفسك في عالم الدنيا، ولو كنت أعطيتني من القوة أكثر مما لدي الآن، لتمكنت من تخفيف بعض الامك، وعلى كل حال لا تقنط من رحمة الله، ولا تيأس من فضله..
لم يكمل كلامه حتى سمعنا نداء هز أهل المحشر، وسمعه أولهم كما سمعه آخرهم:
ــ (يامعشر الخلائق أنصتوا واستمعوا منادي الجيار).
انكسرت الأصوات عند ذلك، وخشعت الأبصار، وفزعت القلوب، ورفع الجميع رؤوسهم منصتين ( مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ)، فكان النداء:
ــ يامعشر الخلائق أن الله تعالى يقول: (أنا الله لا إله إلا أنا الحكم العدل الذي لا يجور، اليوم أحكم بينكم بعدلي وقسطي، لا يُظلم اليوم عندي أحد. اليوم آخذ للضعيف من القوي بحقه، ولصاحب المظلمة بالمظلمة بالقصاص من الحسنات والسيئات، وأثيب على الهبات، ولا يجوز هذه العقبة اليوم عندي ظالم، ولأحد عنده مظلمة إلا مظلمة يهبها لصاحبها، وأثيبه عليها، وأخذ له بها عند الحساب)(3).
توجه عملي الصالح نحوي، وقال:
ــ إن الله تعالى جعل هذا الموقف موقف تصفية الحقوق بين أهل المحشر، إذ هنا يأخذ المظلوم حقه من ظالمة، والمسروق من سارقه، والمغتاب ممن اغتابه و ..
قاطعت كلامه بقولي له:
ــ وهل أخذ حقي منهم يخفف عني ما أعانيه، وما أتألم منه؟
ــ بالتأكيد، وجميع ذلك ينفعك في موقف. الميزان والحساب.
إنطلقنا بعد أن أصطحبنا عددا من الملائكة الذين كانت وظيفتهم ما نروم إليه، ويسمونهم ملائكة أخذ المظالم، وقد كان معهم كتابا سجل فيه كل مظلمة وتبعة كانت لي ولم أستوفي حقي منها في عالم الدنيا.
كان أول إنسان توجهوا إليه هو!...
من الاول الذي توجهوا اليه وسياخذ سعيد حقه منه.. هذا ما سنرويه لكم غدا..؟
فانتظرونا غدا مع الجزء السابع ان شاءالله تعالى