التعريف بيوحنا الفم الذهبي
ولد يوحنا الفم الذهبى فى انطاكية سنة 345 و349 لكن يذكر الدكتور أسد رستم أنه ولد في سنة 345
كان والده سكوندوس قائد القوات الرومانية في سورية. ووالدته القديسة أنثوسة.
توفي والده في السنة الرابعة لزواجه وكان لديه ابنة وابن. فرفضت والدته أن تتزوج بعد ترملها. وتفرغت لتربية ولديها، تربية مسيحية خالصة. فكانت تربيتهم تنضح بعفة وطهارة وإخلاص القديسة اثنوسة
فقال عنها الفيلسوف ليبانيوس “ما أعظم النساء عند المسيحيين”.
دراسه يوحنا وتعليمة
درس يوحنا اللغة والبيان في مدرسة الفيلسوف ليبانيوس أشهر فلاسفة عصره ورئيس مدرسة أنطاكية
أجاد يوحنا اللغة اليونانية التي ساعدته كثيراً في مواعظه وشروحاته. ولمس ليبانيوس مواهبه، فقال لتلاميذه مادحاً إياه: “لقد كان في ودي أن أختار يوحنا لإدارة مدرستي من بعدي ولكن المسيحيين سلبوه منا” إذ أن يوحنا أصبح قارئاً في الكنيسة في سنة 367. ودرس الفلسفة على يد انذورغاثيوس في أنطاكية أيضاً. وكان أكثر أصحابه المقربين باسيليوس الذي أصبح أسقف رفنية قريباً من مصياف.
حياة يوحنا (الفم الذهبي)
اشتغل يوحنا بالمحاماة وبهر الناس بفصاحته وبلاغته لكنة اعتزل فيما بعد مهنة المحاماة.
وكان ملاتيوس الجليل أسقف أنطاكية يرقب تقدم يوحنا في العلم والفضيلة. فلما تيقن من زهده أحله في دار الأسقفية ثلاث سنوات ثم منحه سر المعمودية ورقّأه إلى درجة القارئ. وكان بعض المسيحيون في ذلك الوقت يهابون سرّ المعمودية خوفاً من عواقب الوقوع في الخطيئة بعدها. فآثروا تأجيل ممارسة هذا السر حتى سن متأخرة. أما سبب تأجيل معمودية يوحنا فهو أمر غير معلوم إذ لا يوجد في المراجع ما يقدم لنا الجواب. وقد تكون أحداث أنطاكية هي التي تسببت في هذا التأخر.
وأراد يوحنا أن يخرج للصحراء للتعبد والصلاة والتأمل. إلا أن أمه طلبت منه أن يؤجل هذا حتى ترقد بالرب إذ لم يكن لها معيل غيره. فرضخ لطلبها، ويقول القديس في هذا الصدد: “ما كدنا -هو وباسيليوس- نبدأ بتنفيذ ما رمنا حتى تدخلت أمي، المحبوبة جداً، ضد المشروع. لقد أمسكت بيدي وقادتني إلى غرفتها الخاصة. وأجلستني، وجسلت قربي، على الفراش ذاته حيث شاهدتُ النور لأول مرة. وهنا فاضت دموعها وكانت زفراتها تقطع نياط قلبي وعباراتها العذبة الحنونة تمعن في التقطيع… ومما قالته لي: انتظر فراقي لهذا العالم، ربما يكون قريباً. لقد بلغت سناً لا يُنتظر معه إلا الموت. وعندما تعيدني إلى التراب، وتجمعني إلى أبيك، اذهب حيث تشاء؛ سافر إلى البعيد البعيد، إرم بنفسك في لجة اختيارك فعندئذ ليس من يمنعك. ولكن طالما أمك تتنفس وتتألم لا تتركها ولا تغضب الرب إلهك إذ تلقيني بلا مبرّر وبلا فائدة في لجج من الآلام أنا التي لم أصنع لك شراً. وتابعت: يا بني إذا استطعت أن تنسب لي أني أزيد همومك الحياتية فأنت حرّ من شرائع الطبيعة. دُسها برجليك ولا تأخذ بعين الاعتبار شيئاً واهرب مني كعدوة تنصب لك الكمين… إذا كنتُ صنعتُ بك شراً!!”. وكان هذا الحادث بمثابة نقطة الثقل في حياته. من الأكيد الحصول على الطهارة المسيحية يفرض الهرب من العالم. هذه النجوة هي الطريق الأقصر نحو القداسة. ولكنه الذي يدوس برجليه كائناً إنسانياً -إذ يهرب من العالم- فإنه يسدّ على نفسه طريق القداسة إلى الأبد. ولكنه جعل من غرفته في المنزل قلاّية. وعاش حياة الراهب والابن في الوقت نفسه. فتقشف وكرس وقته للصلاة.
ثم أنشأ بالاشتراك مع باسيليوس صديقه أخوية نسكية ضمت بعض رفاقهما في التلمذة أمثال ثيودوروس أسقف موبسوسته فيما بعد ومكسيموس أسقف سلفكية أسورية. وخضعت فيما يظهر إلى ديودوروس و كرتيريوس الراهبين الرئيسين في أنطاكية آنئذ.
الفم الذهبي الراهب
وفي سنة 373 غضب والنس جاش على الأرثوذكسيين فأكره النساك على الخدمة العسكرية والمدنية. واعتبر بعض المسيحيين أن تقشفات النساك ضرب من الجنون. فضحك الوثنيون على الطرفين. فأخذت الكآبة في نفس يوحنا كل مأخذ. فعلم أحد أصدقاءه بهذا. فحض يوحنا أن يقيم كلامه حصناً يدرأ نار الاضطهاد فتردد يوحنا ثم أنشأ ثلاثة كتب في إطراء السيرة النسكية. لا تزال من أفضل ما صُنف في موضوعها.
ومن ثم ذهب إلى وادي العاصي وأوى إلى مغارة في الفترة ما بين (374-381). وعاد إلى أنطاكية بعد ست سنوات. مريض، فجسمه لم يقوى على التقشف. ورجليه أصبحتا ضعيفتين. يُخيل للناظر إليه أن لا لحم له ولا دم يجري في عروقه. ولم يدرِ وقتها أن الله افتقده لما رأى ثمره نضج وقد حان الوقت ليرفع صوته ويسطع نوره في أفق الكنيسة.
الشماس والكاهن والواعظ:
(381-398) كان القديس ملاتيوس قد عاد إلى أنطاكية في صيف 378. فلما أطل يوحنا على دارس الأسقفية ابتهج الجليل في القديسين ملاتيوس وجاء به ورسمه شماساً رغم معارضته. فأوكلت إليه مهمة مساعدة المحتاجين، فوزع الصدقات وزار المرضى والحزانى….
ودعي ملاتيوس لحضور المجمع المسكوني الثاني في القسطنطينية وترأس أعمله. واستطحب معه الكاهن فلابيانوس يمينه. ووكل السهر على شؤون الكنيسة إلى يوحنا. ثم توفي ملاتيوس أثناء انعقاد المجمع، فبكاه يوحنا. ثم أجمع الآباء الأنطاكيين على فلابيانوس خليفة للرسولين. فتوثقت المحبة بينه وبين يوحنا. وشرع يفكر في ترقية يوحنا إلى الكهنوت. ثم وضع يده عليه في كنيسة القديس بولس سنة 386. واحتشد يومها أهل أنطاكية مسيحيين ووثنيين. فملك يوحنا قيادتها بقداسته وفصاحته. فسعى لإصلاح المجتمع. وحرك الأغنياء أن يمدوا يد المعونة للكنيسة والتي بدورها راحت تبني المشافي والمآوي.
الذهبي الفم وعيد الميلاد:
يؤرخ لنا القديس يوحنا الذهبي الفم أن كنيستنا الأنطاكية بدأت بالاحتفال بعيد الميلاد في أيامه. أخذة بذلك عن كنيسة رومة. فلمّا سيم قساً سنة 386 رأى من واجبه اقناع المؤمنين بأهمية هذا العيد المجيد. فوعظ في المؤمنين في العشرين من كانون الأول وتكلم عن عظمة عيد الميلاد لعظمة سر التجسد وقال: “لو لم يتجسد الرب يسوع المسيح لما كان صلب ولا أرسل الروح القدس. وما كنا نقيم عيد الغطاس ولا الفصح ولا العنصرة. فمن عيد الميلاد تولدت جميع الأعياد السيدية وتدفقت منه كما تدفق الأنهار من ينبوع واحد….”. وعاد قديسنا إلى الوعظ في يوم عيد الميلاد فقال قولاً بليغاً وسجل لنا الأخبار المفيدة لتاريخ هذا العيد. فألمع إلى أننا لم نبدأ الاحتفال به قبل سنة 376 وأننا أخذناه من الغرب وقال: “ولئن كان ظهور هذا اليوم الشريف ومعرفتنا إياه من مدة لا تنيف على عشر سنوات… وقد كان معروفاً منذ البدء بين الشعوب القاطنين في الغرب ودخل بيننا حديثاً…”
ثورة أنطاكية
اعرف المزيد عن ثورة انطاكية ودور الفم الذهبي فيها هنا
الفم الذهبي أسقف روما الجديدة
(398-404) توفي نكتاريوس أسقف القسطنطينية في السابع عشر من أيلول من عام 396 فأصبح كرسي رومة الجديدة كرة شقاق بين الشعب ورجال الكهنوت. وكان ثيودوسيوس وقد توفي في مطلع السنة 395 مخلفاً أزمة الحكم ليدين ضعيفتين لابنيه اركاديوس في الشرق واونوريوس في الغرب. وتسلط على اركاديوس وزيره الأكبر روفينوس ثم قوي على هذا الخصي افتروبيوس فأسقطه وجلس مكانه. وهذا هو الذي عهد إليه منصبه أن يرفض توسلات أولي الأطماع وأن يفتح أذنه إلى وحي ضمير المؤمنين وصوت الشعب المسيحي الحقيقي. وكان افتروبيوس قد عرف الذهبي الفم في أثناء رحلاته إلى الشرق فأُعجب بفصاحته وقدر فضله فلم يجد أجدر منه بإعادة شعب العاصمة إلى الفضائل المسيحية. ولعله أحس بوحي أوتيه من فوق. فإنه عند المجاهرة باسم الذهبي الفم استصوب الجميع هذا الاختيار. وعرف الخصي تعلّق الأنطاكيين بمرشحه. فكتب إلى فيكتور استيروس والي الشرق أن يرسل يوحنا خفية دون إطلاع أحد من الأنطاكيين على ذلك. فبادر الوالي إلى التنفيذ ووجد أن أيسر الطرق هو الاحتيال بإخراج يوحنا إلى ظاهر البلد ليتمكن من تسفيره سراً. فدعا الوالي الكاهن يوحنا إلى زيارة كنيسة الشهداء حيث مدفون أجساد الشهداء في خارج أسوار المدينة. وكان هذا في أواخر تشرين الثاني. فعد يوحنا هذه الرحلة واجباً مقدساً ورضي بها. وذهب الذهبي الفم إلى المكان الذي اتفقا على أن يلتقيا فيه. وفي الموعد المحدد جاء استيروس راكباً في عربة كونتية مفروشة بالحرير، تجرّها جياد أصيلة. وقبل القديس دعوة استيروس للركوب وركب إلى جانبه. وما كادت العربة تتحرك حتى فتح الكونت “استيروس” فمه قائلاً: “بالحقيقة، ليست غايتي زيارة كنيسة الشهداء. أرجو القديس أن يغفر كذبتي”. واتجهت العربة إلى القسطنطينية.
ورغب الأمبراطور ومن حوله أن يستقبلوا المرشح الأنطاكي بما استطاعوا من العظمة والأبهة والإجلال لأنه سيتبوأ أسمى المناصب في الكنيسة بعد أسقف رومة. فدعا الأمبراطور إلى مجمع محلي للانتخاب وجمع أكابر العاصمة واستدعى ثيوفيلوس أسقف الإسكندرية، ليضع يده عليه ويسلمه عكاز الرعاية. وتمت سيامته أسقفاً في 26 شباط من عام 398، وكما يقول السنكسار اليوناني في منتصف كانون الأول من سنة 379.
وثيوفيلوس -”الفرعون المسيحي”، “الفرعون الإسكندري”- هذا يعتبر من أسوء الأساقفة التي عرفتهم الكنيسة. فكان فظاً مثل فرعون، محباً للذهب والأحجار الكريمة مثل فرعون، ويحتقر الإنسان مثل فرعون. ولم يرضَ هذا الفرعون عن مقررات المجمع المسكوني الثاني الذي جعل من أسقف القسطنطينية في الكرامة بعد أسقف رومة. وكان لا يحب الذهبي الفم، ويخشى مواهبه وقداسته فأحب أن يجعل ايسيدوروس الكاهن الإسكندري أسقفاً على رومة الجديدة. وكان هذا الكاهن راهباً فاضلاً ولكنه مطواع فأحبه ثيوفيلوس، لأنه رأى في انقياده آلة يديرها في يده كيف شاء. فجاهر بعدم الرضى فاضطر افتروبيوس أن يقول له: “أمامك أحد أمرين إما أن تنقاد لرأي الأساقفة والوجهاء وإما أن تدافع عن نفسك ضد المشتكين عليك”. فارتبك ثيوفيلوس واحتفل برسامة يوحنا الذهبي الفم.
وأرسل يوحنا رسائل سلامية إلى رؤساء الكنائس. وفي أول يوم بعد دخوله القصر الأسقفي أحدث تغيرات. غيّر بعض الأشياء التي من شأنها إغضاب الرب. إذ أن سلفه كان محافظاً للمدينة ومن ثم وبعد أن تقاعد، أصبح أسقفاً فاحتفظ بالقصر وجعله القصر الأسقفي. فكان مليئاً بالذهب ومظاهر الترف. فأمر يوحنا ببيع جميع الأواني الفضية والذهبية وتوزيعها على الفقراء. ثم باع السجاد وشيّد بثمنه مستشفى للفقراء. وباع المقاعد الحريرية والمغاطس الرخامية والشماعدين وأقام بأثمانها مأوى للغرباء. باع المرايا واللوحات والأعمدة وترك الجدران عارية. وأخيراً باع السرير: الحرير والمخمل النادر. وأتى بسرير من ألواح الخشب. وبعد ذلك صرف جميع الخدام على اختلاف وظائفهم بعد أن دفع لهم ما يحق لهم من المال. وأرسل جميع أدوات المطبخ إلى المأوي والفقراء.
لم يشهد سكان القصر الأسقفي مثيلاً لما يجري أمامهم. وتكلموا باحترام مع سيد القصر قائلين: إن أسقف القسطنطينية ثاني أسقف في العالم، وعليه واجبات رسمية. عليه أن يقيم مآدب، وأدوات المطبخ لازمة. عليه أن يدعو الأمبراطور والأمبراطورة والأعيان. هكذا البروتوكول!
وأبدى القديس أسفه قائلاً: إن الأسقف طبيب روحي وأب. وليس صاحب مطعم يدعو الناس ليملأوا بطونهم. ولكي يعطي لكلامه وزناً عملياً أصدر أمره ببيع غرفة الطعام بكاملها. وأعلن أنه لن يدعو أحداً إلى الطعام وأنه سيأخذ طعامه وحيداً كما كان يفعل طيلة حياته. وأنه غير محتاج إلى طاهٍ وأدوات. سيهيئ، بنفسه وبمساعدة أحد الرهبان، الخضار التي يتناولها مرةً واحدة في اليوم.
إلا أن إنسان واحد لم يقتنع ولم يصدق أن القديس يعيش حياة قاسية. وهو الأسقف أكاسيوس. كان صديقاً للقديس، وأسقفاً في الملحقات “خوراسقف”. قدم لأشغال خاصة في القسطنطينية. وعرف الذهبي الفم بقدومه فدعاه للحلول ضيفاً عليه. وسر الأسقف أكاسيوس بهذه الدعوة، فكان بالنسبة له دخول القصر الأسقفي موازٍ للدخول للقصر الأمبراطوري. وقاده الراهب إلى الغرفة المخصصة له. كانت شبيهة بغرفة الذهبي الفم تماماً. فيها سرير من الخشب وعليه غطاء، والجدران عارية. وفتح أكاسيوس فاه عجباً، وظن أن صديقه الذهبي الفم يسخر منه. وللحال ترك أكاسيوس القصر الأسقفي غاضباً. ومن تلك اللحظة أصبح عدواً لدوداً للذهبي الفم. وعبثاً حاولوا أن يفسروا له أن أسقف القسطنطينية ينام في غرفة مماثلة. لم يصدق أكاسيوس أن صديقه الذهبي الفم سخر منه وهو لن ينسى له هذه الاهانة طالما فيه عرق ينبض. وسيحاول الانتقام لكرامته.
وعني القديس بإصلاح الاكليروس. فسلق بعضهم بلسانه سلقاً. وأوجب عليهم الزهد في الملبس والمأكل والقيام بالواجب المقدس. وكان لكلامه وقع شديد في قلوب السامعين فانقاد اكليروس القسطنطينية لصوته وعاد عدد كبير منهم إلى ما اعتاد عليه آباء الكنيسة الأولون من التواضع والفقر والقناعة والقداسة. وكان الارشدياكون سرابيون أشد من الذهبي الفم غيرة على الإصلاح فأمسى إفراطه في التنقيب والتأنيب عثرة في سبيل القديس. فحقد بعض رجال الاكليروس على الأسقف والأرشدياكون واضطر الأسقف بعد أن يئش من إصلاحهم أن يقطعهم من جسم الكنيسة. وتفقد القديس بنفسه جميع الأديرة فأثنى على المحافظين على فرائض الدعوة وأكره الذين نفخ فيهم ريح العالم على الرجوع إلى الأديرة والتقيّد بقوانينها وتقاليدها. وحرم على الكهنة قبول العذارى المصونات في بيوتهم. وأنشأ للعذارى مآوي انقطعن فيها للصلاة والفضائل ولنسح ثياب الفقراء وتزيين الكنائس وجعل عليها أمّاً واحدة لسياستهن نيكارتية النقوميذية. ثم التفت إلى إصلاح ما فسد من أحوال الأرامل فئة الكنيسة العاملة في أوائل عهدها. فمنعهن من التردد إلى البيوت والحمامات والملاعب وأمرهن أن يعتضن عنها بالتأمل والصلاة ومواساة الفقراء وعيادة المستشفيات. وحتم أنهن إن استثقلن الترمل فليتقيدن بزاج ثان خير لهن وأولى. وفاقت أولمبياذة جميع الأرامل بجميل فضائلها وكثرة حسناتها. وكانت قد ترمّلت وفي في العشرين من عمرها فالتحقت بأحد الملاجئ. فلما أتى يوحنا إلى القسطنطينية كان لها من العمر خمسون عاماً. فأثرت شخصيته في نفسها فعرضت عليه خدماتها وأموالها. فأنفق القديس عن سعة في سبيل تبشير القوط والروس وبعض الفينيقيين وفي تلال لبنان وإنشاء المؤسسات الخيرية. وسعى سعياً حثيثاً لحماية خرافه من حملات الهراطقة – الآريوسيين والأفنوميين والمانيين والمركونيين والفالنتينيين.
أخصام الذهبي الفم
خشي الوطنيون الروم مطامع غايناس فعاهدوا قوطياً آخر. ولدى خروج غايناس من العاصمة أوائل سنة 400 هجم الوطنيون على من تبقى من عساكره في داخل المدينة وقتلوهم. وعبر غايناس الدانوب ووقع أسيراً في يد الهون وقُتل في أواخر سنة 400.
وبزوال افتروبيوس وغايناس زالت هيبة السلطة فجهر أخصام الذهبي الفم بمعارضة أدت مع مرور الزمن إلى نفيه ووفاته. وشملت هذه المعارضة منذ البداية عناصر معينة من الرهبان والأرامل والأساقفة. وتزعم معارضة الرهبان اسحق الراهب الذي كان قد أمّ العاصمة في عهد والنس واشتهر بحق وبغير حق بقداسة فائفة وبجرأة في سبيل الأرثوذكسية. أدت به إلى مصارحة والنس باقتراب أجله. وكان قد أسس لنفسه مقرّاً عند مدخل العاصمة أصبح أول الأديرة فيها. ولم يرضَ الراهب عن إصلاحات الذهبي الفم، فلما زالت سطوة البلاط بدأ يطعن في الأسقف القديس فكان لكلامه ودعاياته أسوأ الأثر.
وانضم إلى المعارضة عدد من الأرامل من بينهن صديقات الأمبراطورة افذوكسيا. كمرسة وكستريكية وافغرافية التي قدر لها أن تلعب دوراً هاماً في الدس والمؤامرات في البلاط. إذ أن القديس وبخها لأنها وهي كهلة تتصابى وتقلد الشابات في الملبس والمظهر. إذ كانت تفضل أسقفاً يقول لها أنت صبية.
في أفسس:
ترأس الذهبي الفم مجمعاً محلياً في أيلول سنة 400. وأثناء الجلسات الأخيرة تقدم أسقف غريب اسمه اوزيبيوس. جاء هذا الأسقف يُشهِّر الجرائم التي يرتكبها بعض أساقفة آسية، وأن الكرامات الكنائسية والدرجات الكهوتية تُباع بالمال. وأن الصولجان الأسقفي صار للتجارة. وأن وراء هذا أنطونيوس أسقف أفسس. وراح يتكلم ويشكو للذهبي الفم أوضاع الكنيسة في آسية. وكان القديس يسمع الكلام ورأسه بين يديه. وجاء الشماس ينبهه بأن وقت القداس قد حان ويدعوه للكنيسة. ولكنه رفض، بعد سماع مثل هذه الأشياء لا يقدر أن يخدم القداس. أذناه مازلتا متألمتين.
زالقديس يعرف أن أفسس لا تخضع لسلطته. وأن أساقفة القسطنطينية لم يتدخلوا مطلقاً في شؤونها. ولكن الذهبي الفم يكسر الحدود دفاعاً عن كنيسة المسيح. وفتح تحقيقاً ليتأكد من صحة هذه الاتهامات. بإرساله أسقفين للبحث والتدقيق. ولسوء الحظ جاءت النتيجة إيجابية. فقد كتب أحد مؤمني آسية إلى القديس يقول: “منذ سنوات، أيها الأب الجليل، والقيادة فينا ينقصها العدالة والحق. نسترحمك اذن أن تأتي إلينا”.
وفي التاسع من شباط 401 أبحر إلى آسيا. وفي أفسس دعا إلى مجمع مؤلف من سبعين أسقفاً. وحضر أمامهم المتهمين. إلا أن أنطونيوس كان قد مات قبل وصوله. وأعلن الكهنة أنهم انخدعوا ووقعوا في الضلال وأن نيتهم حسنة!!!
فطرد الذين اشتروا الكهنوت من أنطونيوس. وأعطاهم وثيقة يستطيعون ملاحقة ورثة أنطوينوس بها. وأقام خلفاً لأنطونيوس الشماس هيراقليدس. ثم انتقل إلى ولايات مجاورة وجرّد ستة عشر أسقفاً وأقام خلفاء لهم.
المؤامرات تحاك ضده: وفي أثناء غيابه عن القسطنطينية حيكت ضده مؤامرة برئاسة الأساقفة، أكاكيوس صديقه، وسفيريانوس وبعض الأساقفة القادمين من أنطاكية. أما مكان التأمر فكان بيت افغرافية. وانضم لهذه العصابة الأمبراطورة نفسها. ولم يعطي القديس أي اهتمام لهذه المؤامرة. لأنه قد بلغ مرحلة الانفلات الكامل من أمور الدنيا. أما في ما يختص الكنيسة فيكون نشيط الحراك بطل في ساحة المعركة مناضل مصارع لا يهاب شيء.
ونشب خلاف طارئ بين سفيريانوس وسيرابيون الشماس الأكثر إخلاصاً للذهبي الفم، والذي كان من مصر. وذات يوم مرّ به الأسقف سفيريانوس فلم يشأ سيرابيون أن يحييه. فوبخه الأسقف وكان ردّه عنيفاً وتلفظ ألفاظاً لا يجو لأسقف أن يتلفظ بها حتى لو غضب “اغضبوا ولا تخطئوا” ومن جملة ما قال: “إذا مات سيرابيون مسيحياً فإن الله لم يتأنس”. وتم عقد مجمعاً لفحص للنظر بهذا الأسقف وأعاد أمام المجمع عبارته. فاعتبر كلامه هرطقة. وأوقف عن الخدمة. فطال لسانه هذه المرة القديس الذهبي الفم. وهذا الأمر لم يستطع مؤمني القسطنطينية احتماله. فهاج الشعب وأراد أن يقتله إلا أنه استطاع أن يفلت منهم وهرب في البحر ليلاً.
فاغتاظت افدوكسيا للأمر وطلبت من سفيريانوس العودة. إلا أن الشعب كان يريد أن يراه فقط لينتقم لإهانة القديس، فلم يكن أمام أفدوكسيا حلّ إلا أن تذهب إلى القداس وتركع أمام الذهبي الفم وتطلب منه أن يغفر لسفيريانوس خطيئته، ففعل. وعمل على تهدئة الشعب.
الأخوة الأربعة الطوال:
كان ثيوفيلوس الفرعون الإسكندري يكره الذهبي الفم وقد أُجبر على سيامة يوحنا أسقفاً على القسطنطينية. وكان نشاطه بدأ يتسع إذ أخذ على عاتقه تهديم الهياكل والتماثيل الوثنية والمكتبات. كان المسيحيون في ذلك العصر، يعتقدون بأنهم يقدمون خدمة لله. إذ ينتظمون جماعات جماعات وينطلقون لتهديم هياكل الآلهة الوثنية. وكان الوثنيون يطلقون عليهم لقب “العصابات السوداء”.
وثيوفيلوس كان يقود بنفسه فرقاً من الجنود. فكان هذا الفرعون لا يتوارى عن إصدار الأوامر بالتعذيب. يل ويشترك في هذا العمل الوحشي. واهتم ببناء الكنائس كحجر ونسي واحتقر البشر. وابغض جميع الناس.
تعاقد ثيوفيلوس مع افدوكسيا على مهاجمة الذهبي الفم. وكان جديراً بهذا. فهو خبير في التهديم والتخريب والتدمير وتصفية الإنسان! ولا بد من مناسبة لمباشرة العمل. فكان “الأخوة الطوال” الحجة التي تذرع بها للانقضاض على الذهبي الفم.
“الأخوة الطوال” أربعة أشقاء يعيشون في برية مصر نساكاً منقطعين عن العالم. وأسماؤهم هي: امونيوس ديوسقوروس، افيميوس وأوريبيوس. وأراد ثيوفيلوس أن يخرجهم من حياتهم النسكية ليرفعهم للاسقفية. لكنهم رفضوا. فأرسل ثيوفيلوس جنوداً ليجلبوا امونيوس بالقوة. فلما رأى الجنود قادمين، أمسك بالسكين التي يستخدمها لتقشير الخضار وقطع إحدى أذنيه. فلم يعد يستوفي شروط الأسقف. وكان الذهبي الفم متتبع لأخبار الأخوة الطوال ومعجباً بهم.
.
وأراد ثيوفيلوس أن يغتصب ثروة أرملة. ولكن كيف يبرر هذا الاغتصاب؟. فلجأ إلى مدير أبرشيته: الايكونومس ايزيدوروس. إلا أنه كان تقياً صالحاً فرفض أن يشاركه في هذه السرقة. فغضب وأصدر أمره بإلقاء القبض عليه وتعذيبه وتسليمه للقضاء. إذا كان الأسقف الإسكندري يتمتع بصلاحيات زمنية. ولإثبات التهمة كان الفرعون بحاجة إلى شهود. ولمّا كان مدير الأبرشية يتمتع بسمعة طيبة وصيت حسن، وجب إذن أن يكون الشهود أوفر فضيلة منه. ولا يتمتع بهذه الفضيلة إلا الأخوة الطوال. فاستدعاهم ثيوفيلوس وطلب منهم الشهادة. ولكنهم رفضوا بحزم. فأصدر أمره للجنود، فعذبوا الأخوة الطوال ثم قيدوهم بالحديد. وتولى ثيوفيلوس بنفسه ضربهم، بيديه. ثم راح يدوسهم برجليه. ثم اقتيدوا للسجن في سلاسل الحديد. وهزّ هذا المنظر الإسكندرية بأسرها. فلم يكن أمام ثيوفيلوس إلا أن يذيع خبر بأن الأخوة الطول أصحاب هرطقة. ولم تنجح الحيلة فأطلق سراحهم.
وفي يوم ذهب ثيوفيلوس إلى برية مصر مصطحباً جنود معه. وراح يحرقون المناسك. وخرج الرهبان مرعوبين. ولحق بهم الجند وباشروا بتقتيلهم. واستمرت المجزرة طيلة الليل. ونجا الأخوة الطول ومعهم ثلاثمائة راهب. هؤلاء فقط الذين نجوا من مذبحة ثيوفيلوس. والذين يقول فيهم الذهبي الفم: إن المناسك في برية مصر تلمع بفضيلة الرهبان أكثر من نجوم السماء وإن سكان هذه القلالي هم ملائكة في صورة بشر. فاتفقوا على أن يقطعوا الصحراء متفرقين على أن يلتقوا على الحدود الفلسطينية. وعاد ثيوفيلوس إلى الإسكندرية وأصدر حرم عليهم جميعاً، على كل الذين نجوا من رجاله القتلة.
ووصل إلى فلسطين وكان قد رقد منهم الكثير في مجاهل الصحراء. جوع وعطش ومرضاً… فصلوا على أرواحهم ودخلوا فلسطين. إلا أن أسقف أورشليم لم يستطع أن يبقيهم في أورشليم. فلم يبقَ لهم إلا القديس الذهبي الفم فالتجأوا إلى القسطنطينية. وكان عدد الذين دخلوا القسطنطينية 50 فقط.
ولدى وصلهم طلبوا من الذهبي الفم أن يسمح لهم بالاستقرار في أبرشيته. للصلاة والتعبد. وكان الذهبي الفم يعلم بأمر حرم ثيوفيلوس لهم. فناقشهم في اللاهوت والعقيدة ليتأكد إذا كانوا في الهرطقة أم لا. ولم يلاحظ أي أثر للهرطقة في روحانيتهم. فقال للأخوة الطوال: “أنا أخذ قضيتكم على عاتقي. فإما أن يحلكم مجمع آخر ينعقد لهذه الغاية، وإما أن يرفع أسقفكم بتلقاء إرادته الحرم عنكم. اعتمدوا علي”. فسمح لهم أن ينزلوا في بيت قريب من إحدى الكنائس وسمح لهم بالصلاة مع سائر المؤمنين ولكنه منعهم عن الإشتراك في ممارسة الأسرار المقدسة، حتى يحل الحرم عنهم.
فكتب إلى ثيوفيلوس يناشده برابط “المحبة الأخوية الجامعة” أن يصفح عن الأخوة الطوال، وقال له أنه تأكد من عقيدتهم ولا يوجد فيها ما يخالف الإيمان القويم. وقال له بشجاعة أن الحرم الذي أنزله ظالم. وأنه سيدعو مجمعاً مقدساً يعيد الحق لنصابه. إذا رفض ثيوفيلوس أن يفك الحرم.
وأظهرت افدوكسيا نوعاً من الشفقة عليهم وأجبرتهم على إمضاء عريضة يطلبون فيها حمايتها. فوافقوا بعد أن تعهدت الأمبراطورة التي تعهدت لهم بدعوة مجمع إلى الانعقاد ليمنحهم العفو ويرفع الحرم عنهم. وهنا انسحب الذهبي الفم، لأن القضايا الكنسية ليس من حق أحد خارج الكنيسة أن يعالجها. وليس من حق افدوكسيا أن تدعو إلى مجمع وأن تقرر إذا كان الحرم عادلاً أم لا. إلا أن الامبراطورة أرادت بهذه العملية أن تظهر أن الذهبي الفم مقصراً في حمايتهم. إذ أن الشعب دائماً إلى جانب المظلومين.