الثقة وتحمُّل المسؤولية هما قرينان لا ينفصلان فهما توءَما العمل المتقن والنجاح المتصاعد إلى ذرى المجد لأي عمل.
هما دعامتا القيام بواجبات الإنسان الوظيفية والاجتماعية والمهنية، تلك الثقة الممنوحة لأي مسؤول قد تمنح في البدايات بعد إجراءات ووثائق وشهادات، وقد تكتسب بالمواقف الصانعة للرجال، فالمواقف تصنع الأشخاص، ولكن استمرارها مرهون بالوفاء وصيانة العهد والوعد: ﴿ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولًا ﴾ [الأحزاب: 15]، ففي أهم علاقة إنسانية وأوثق علاقة في بني آدم نواة تكوين المجتمعات (الأسرة)، سماه الله تعالى (بالميثاق الغليظ)؛ أي مسؤولية الزواج وثقة تحمُّل مسؤولياته.
وهذا صاحب العزم كليم الرحمن موسى عليه السلام، قام بالمسؤولية الرجولية والموقف الإنساني المحتم على ذوي المروءات عندما رأى امرأتين ضعيفتين لا تلويان على شيء يذودان عن أكابر القوم غُنيماتهما، وليس لهما من سند وعون إلا الله في بيئة بدوية عمادها القوة، والقوة فقط، نهض وزاحم، ﴿ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ ﴾ [القصص: 24]، فكان القيام بالمسؤولية غير المشروطة مع إبراز الضعف والفقر والمسكنة لله تعالى سببًا لمنحه ثقة الزواج والعمل: ﴿ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ﴾ [القصص: 27].
وأما سنة سيد الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام، فبحر زاخر من المواقف النبوية في منح الثقة في موضعها، وطلب التنحي عن المسؤولية في موضعه، نظرًا لنقص في القوة، أو أمر بالقيام بالمسؤولية لإثبات الأمانة والثقة معًا.
فهذا أبو ذر رضي الله عنه ينصح بألا يأتمر على اثنين.
وهذا أبو بكر رضي الله عنه: (مروا أبا بكر فليُصلِّ بالناس)، وتتويجًا لهذا كان له مرتبة الصِّديقين، وهي من أعلى مراتب الذين أنعم الله عليهم بعد النبيين، وختمها تتويجًا لتلك الثقة بالخلافة، فكان المسؤول عن الدولة بعد رسول الله.
وهذا أبو عبيدة أمين سر هذه الأمة، جعله الرسول عليه الصلاة والسلام في محل الثقة العظمى الجليلة عن أسرار الدولة الفتية في بداياتها، فسُمي "أمين الأمة"، وعلى هذا المنهج القويم سار سلف الأمة في ضبط أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، فكان من مراتب الرواة الثقة الثبت.
ونماذج أخرى مشرفة في تاريخ الأمة على مدى القرون الأربعة عشر من قيادات تولَّت أمرها في حِقَبٍ تاريخية مختلفة، جمعت بين أن تكون في محل ثقة الأمة في مواقع مسؤوليتها، واضطلعت بواجبها تُجاهها بوصفها خادمًا للأمة، ومتأمِّرًا لها لسياسة أمورها على منهاج قويم وسنة سيد المرسلين، ودفعًا عن حرماتها وعدلًا بين أفرادها.
مع وجود كبوات هنا وهناك كما هي حال الأمم في لحظات الصعود الحضاري وتداعيات السقوط إلى من عالٍ إلى سافل، عندما أخذت بأسباب السقوط في دروس التاريخ المختلفة.
وخلاصة القول: كما أن المسؤولية لا تُخوَّل إلا بعد تحمُّلها، فالثقة لا تُسترد إلا (بصعوبات) بعد كسرها.
م