Sun, Jan 13, 2013
ميادة ابنة العراق _ الحلقة الخامسة
"ميادة ابنة العراق": قصة حقيقية ترويها امرأة أيضا، هي الصحفية العراقية ميادة نزار العسكري، إذ تنقل جزءا "بسيطا" مما جرى عليها ومعتقلات أخريات رأتهن في الزنزانة 52 في مديرية الأمن العامة، في البلديات، ببغداد. صار هذا الكتاب أحد أبرز وثائق إدانة نظام الوحشية والخوف الذي "أخرس" الجميع في داخل العراق ولربما جزءا في خارجه. ترجم الكتاب الى لغات عدة وظهر بطبعات عدة، منها طبعة مجموعة بنغوين في العام 2004، وتقدمه "العالم" لقرائها في اطار جهد يسهم بقراءة مرحلة ليس الحاضر الذي نعيشه في تفاصيل حياتنا الشخصية والعامة إلاّ نتاجها.
الحلقة الخامسة
ميادة لم تدخل هذا المجمع من قبل حتى حين كان فاضل البراك يطلبها بين حين وآخر، لذا ضغطت على ذاكرتها صورة مقارنة بين هذا المبنى وسابقه في منطقة البتاويين-قبالة القصر الأبيض.... إذ هي تعرف المقر القديم جيدا، زارته مرات عدة خلال عقد الثمانينات عندما كان البراك صديق عائلتها إبان توليه منصب مدير الأمن العام في العراق.
في تلك الحقبة لم تكن ميادة تعلم أن المكان يضم هذه الأهوال وما كان يتحدث به (الدكتور فاضل) صديق العائلة، أنه منهمك ليل نهار (لحماية) العراقيين من أخطار المجموعات المعارضة والإرهابيين في العراق.
الآن وهي تقاد عنوة بين وحشين لا يعرفان الرحمة. أدركت كم كانت على خطأ. وركبها أسى ثقيل وشعور بالذنب كبير لأنها كانت على معرفة بالدكتور فاضل البراك! فهو، أو من هو بمنصبه أدار مطحنة ضارية الأسنان ضد حشود من الأبرياء اقتيدوا وعذبوا وقتلوا على الشبهة أو أنهم وطنيون اجتهدوا بخلاف ما يراه صدام ونظامه!
مكان كهذا حيث الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود.
شعرت ميادة بحجم الخديعة وضراوتها، وبأنها إنما كانت تخدع نفسها أولا بشأن حقيقة (فعاليات) هذه الحكومة المشينة، ربما بسبب صغر سنها آنذاك أو براءتها فلم تستوعب حقيقة وضع بلادها.
الآن، راحت تقارن بشريط سريع أمورا بدت لها صغيرة آنذاك في مقر الأمن العام القديم وما تراه حولها اليوم. كل شيء بدا ظاهريا كأنه محض تغييرات في شكل المبنى لكن المعنى ازداد سوءا فالأبنية الجديدة لا قيمة لها وهي مثل أي مقاربة رمزية كالباستيل في باريس والسجن الصحراوي – المنفى المعروف في العراق بـ(نقرة السلمان).
عندما كان (الدكتور فاضل البراك) مديرا عاما للأمن العام أو (السيد العام) كما يخاطبه منتسبوه، كان المقر يقع في منطقة البتاويين - القصر الأبيض وسط بارك السعدون، الحي الذي كان يسكنه اليهود والمسيحيون فيما مضى حيث شيدت المنازل على الطراز البغدادي الأصيل لحقبة الأربعينات بشبابيك عالية ذات غواليق من خشب الساج وزخرفات نباتية وحيوانية وهندسية تزين طابوق الواجهات وكتابات ونقوش تزين الواجهات والأبواب وشرفات تطل على حدائق فارهة، حيث يمارس الأطفال لعبهم البريء ويجتمع الكبار في العصاري والأمسيات، وفي أحد صباحات بغداد الرائعة، وصل عدد من موظفي الحكومة على غير سابق موعد وتم وضع اليد على تلك الدور واستملكوها بسعر القوة، فمن يخالف شرطة الأمن؟ من ثم شيد جدار عال وعازل حول المنطقة التي تحولت إلى (دائرة رسمية) لا يدخلها مراجعون!! لا في الليل ولا في النهار، بل ثلة من الشرطة السريين وطواقم تحقيقات وتعذيب وقتل. وعمل البراك الذي كان يأتمر مباشرة بأمر صدام حسين وتخندق بمكتب جديد أعد له على عجل. كان الطابق الأول منه مرآب لسياراته اليابانية حديثة الموديلات وهي هدايا من صدام حسين نفسه، أما غرفته نفسه فضمت مكتبا خشبيا مبالغا في حجمه وكنبة جلد ذات لون غامق مع مقعدين جلد وثيرين أيضا وطاولات قهوة مصنوعة من الزجاج وزين السقف بقطع معدنية صغيرة مرتبة بأشكال هندسية مربعة كأنه صالة "ديسكو"!
ثمة أيضا أجهزة متنوعة وحديثة جدا للعرض والتلفزة والفيديو، لم يكن يسمح بدخولها العراق آنذاك إضافة إلى شاشة عرض سينمائي صغيرة. أما في حوش مقر (السيد العام) فثمة مسبح داخلي أيضا.
في ربيع 1984 تم ترقية (الدكتور فاضل البراك) إلى رئاسة جهاز المخابرات العراقية فأصبح مكتبه الجديد في أبنية المخابرات العراقية في ساحة النسور بحي المنصور وهو من الأحياء الراقية في بغداد.
ميادة دعيت لزيارته بوظيفته الجديدة ومقره الجديد مرات عدة أيضا، وكانت تظن أنه لو كان ذلك (الدكتور) (صديق العائلة) حيا حتى الآن لكانت تزور هذا المكان ضيفة وليست متهمة مرعوبة، ولم يخطر ببالها أن واحدا من أسباب اقتيادها الآن وبهذا الأسلوب ربما يعود لتلك العلاقة مع (السيد العام) السابق الذي صنف (خائنا) فيما بعد وقضى إعداما بأمر مباشر من صدام نفسه، فصدام يصنف أصدقاء أعدائه، أعداء ألداء له ولعائلته المصغرة وإن لم يكونوا كذلك بالضرورة!
دفع الحارسان ميادة داخل مكعب الكونكريت، هكذا تراءت لها تلك البناية المغلقة في غموضها المخاتل، ثم وجهت نحو مكتب نصف دائري إلى يمين المدخل فصارت في مواجهة رجل ضئيل الجسم بوجه مجعد يجلس خلف ذلك المكتب نصف الدائري، نظرت إليه ولفتها حفر التجاعيد في وجهه (ربما نتيجة للقلق والضغط النفسي) قالت في سرها ثم سخرت من هذا الاستنتاج فمثل هؤلاء لا يقلقون إلا على (سلطتهم) وليس نتيجة لتقدم في السن أو مخافة الله!
هم أيضا يخافون على رؤوسهم الراقصة على رأس دبوس، حالما تحركها أنامل (الحجاج) تهوي كأن سيفا بترها وألقاها في العدم!
لم تكن قادرة على تفسير شعورها بأن تجاعيد هذا الوجه تدون ما رأى وفعل أو ما مر به، وليست ذاكرة لسنيّ عمره إذ لا يبدو طاعنا في العمر، لكنه أكيد طاعن في الظلم! أمرها فجأة بأن تسلمه مقـتنياتها، راح يسجل في سجل ضخم وبآلية الاعتياد فقرة فقرة: خاتم، ساعة، محفظة فيها 20 ألف دينار عراقي (تقارب العشرة دولارات أميركية بفارق العملة آنذاك)، كتاب لتسجيل الملاحظات وطلبيات التصاميم والطباعة، دفتر هواتف، هوية الأحوال المدنية، مفاتيح، وأخيرا ورقة فيها ملحوظة من إبنتها (فيء) تقول فيها: ماما لا تنسي دعوة الغداء في بيت أنمار وناديا البكري!! وفجأة أيضا نبت أمامها رجل آخر، كأنه خرج من العتم فأمسك يدها اليمنى وسحب إبهامها وغطسه في إسفنجة الحبر ثم راح يضغط به على ورقة السجل حيث دونت أغراضها.
يبدو إنني سجنت ولم أحاكم، صارت لي صحيفة أغراض كأنها صحيفة أعمال! (قالت ميادة مع نفسها غير مصدقة هذا الإجراء) وتساءلت: ترى إلى أين تقودني هذه الإجراءات؟
في التوّ دخل رجل آخر إلى الغرفة ثم قام ومن سبقه باقتياد ميادة العسكري إلى حيث لا تدري!
بعد ولوج باب ذي دفتين وجدت نفسها في رواق طويل كئيب وتوقف الرجلان أمام الباب الثالث إلى اليمين.
- الزنزانات؟ أدركت الأمر الآن و تسمرت بأعصاب مشدودة!
فتح الرجل الأكثر بدانة باب الزنزانة بمفتاح صرَّ وأنَّ كأنه لم يزيت منذ عصور وأومأ إلى ميادة بالدخول، رأت ميادة بما يشبه الكابوس الرقم المدون على باب الزنزانة : 52 فصعقت وصرخت كمن يخشى دخول الجحيم: لا..لا ..لا!!!؟ مدت يدها لتفرك عينيها ولتتأكد أنها لا تحلم ثم زيادة في اليقين المرتبك تلمست أناملها ذلك الرقم، ها هي ذي حقيقة أغرب من الخيال، سوف تسجن هنا في الزنزانة رقم 52!!!.
عيناها تحرقانها وبدنها يقشعر ويختض كمن في نوبة صرع، شعرت بأن شيطان الرقم 52 يسخر منها، بل يضرب يافوخها بقبضة من شماتة ويعتصر قلبها بنذالة المهيمن، وشعرت أن سيلاً من دموع ساخنة ينثال من مقلتيها.
- هذا الرقم ؟ وليس سواه؟ يا لسخرية الأقدار! لا علاقة لهذا الرقم بأية ميثولوجيا ولا أساطير الأولين إنه تذكار مشؤوم لسلسلة من الفواجع والذكريات لها ولعائلتها ولأجيال عدة.. فوالدها توفي وهو في الثانية والخمسين من عمره في الغرفة رقم 52 بمستشفى الراهبات ببغداد.
ولمتابعة بقية الحلقات :
الحلقة الاولى
الحلقة الثانية
الحلقة الثالثة
الحلقة الرابعة