ماذا لو أنَّك تجلس بين مجموعة مِن أصدقائك، وأخذت تُراقب كُلًا منهم على حِدة ؟ أحدهم يتثاءب بصوتٍ يُثير أعصابك، وأحدهم يُصدر صوتًا مُزعجًا أثناء مَضْغه للطعام، والآخر يَهُز رجله بشكلٍ مُتكرر ومُلاحظ. حتى دقات عقارب ساعتك تعاونت معهم عليك. اهدأ ودَعني أُخبرك بأنَّك تُعاني من الميسوفونيا يا عزيزي القارئ.
تخيل أن تجلس وسط كُلّ هذا وتشعُر أنَّك سَيُجن جنونك، وأنَّ كُلّ هذه الأصوات -والتي يُمكن أنْ تبدّو عادية وطبيعية بالنسبة لآخرين- ستقُود عقلك إلى حالة من الهياج، وتُسبب لك حالة من الضيق والغضب. وفجأة تصرُخ عاليًا:
كفى، لا أطيق تلك الأصوات.
وقبل أنْ تسأل عن هذا المرض/الاضطراب الميسوفونيا، سأُخبرك كلّ شيء خلال هذا المقال.
ما هي الميسوفونيا طبيًّا ؟
مُصطلح الميسوفونيا Misophonia مأخوذ مِن كلمتين يونانيتين، misos أي الكراهية و phone أي الصوت، يعني كراهية الأصوات. تمت صياغة هذا المصطلح مِن قِبل الدكتورين باول ومارجريت جاستروبيوف ضمن ورقة بحثية نُشرت لهما في الثامن عشر من يونيو عام 2001. ويتم تعريفها على أنّها حالة أو اضطراب يتضمن مجموعة من المشاعر السلبية -عادةً ما تكون القلق والغضب- نتيجة التّحسس لبعض الأصوات التي يُصدرها الآخرون كالمَضغ والتثاؤب والتنفس أو الطقطقة والنقر بشيءٍ ما وغيرها.
عُرفت أيضًا باسم متلازمة حساسية الصوت الانتقائية
– Selective Sound Sensitivity Syndrome، مِن قِبل أخصائية السّمع الدكتورة مارشا جونسون.
حول اكتشاف هذا المرض المُزعج
في سبتمبر عام 2011 كتبت المُحررة جويس كوهين مقالًا لها بمجلة The New York Times يتضمن معلومات حول الدكتورة مارشا جونسون، والتي لاحظت هذه الحالات غير العادية. فعملت على تجميعها منذ عام 1997، لتصل إلى 800 حالة بنهاية فترة التسعينات.
وجدت أنّ هذه الحالة تظهر في بدايات الطفولة ما بين 9-13 عامًا، وأكثر شيوعًا بين الفتيات. وذكرت جونسون أنّه تم تشخيص تلك الحالات بالعديد من الاضطرابات المختلفة؛ كاضطرابات الرهاب، اضطراب الوسواس القهري، اضطرابات القلق ثنائية القطب، والهوس.
عندما يجتمع الغضب والخوف في آنٍ واحد
يُمثل هذا الاضطراب لمُصابيه معركةً؛ إما عليه خوضها أو الهروب منها لتفادي الضّرر الناجم عنها. حيثُ تتراوح أعراض الميسوفونيا ما بين أعراض نفسية كالقلق والانزعاج والغضب، إلى أعراض جسدية كالشعور بضيق التنفس وآلام بالصدر وزيادة سرعة ضربات القلب وارتفاع ضغط الدم. وتتراوح ردات فِعل المُصاب بها ما بين الفِرار للتخلص من شعور عدم الراحة، إلى اللجوء لوسائل عُدوانية رغبةً في إيقاف الشخص المُسبب لهذا الصوت. وفي بعض الحالات قد يتطور الأمر لحالة من الخوف الشديد، يلجأ فيها المريض للعزلة الاجتماعية تجنبًا لتلك المشاعر السلبية المُسيطرة عليه. ورُبما يتطور الأمر أكثر فأكثر حتى يصل للأفكار الانتحارية.
يقول داميان دينيس – أستاذ الطب النفسي في جامعة أمستردام :
بعض الناس يُشككون فيما إذا كانت تلك الحالة اضطرابًا حقًا. ولكن المرضى يُعانون في حقيقة الأمر، فلقد مرَّ علينا العديد من حالات طلاق، وآخرون يتركون وظائفهم بسبب هذا الاضطراب. كما أنّ قلة الوعي بهذا الاضطراب وخاصةً للأطفال، يُؤدي إلى تغيرات ملحوظة في سلوكهم. وأيضًا التّسبُب في اضطراب نقص الانتباه، وفرط الحركة، أو حتى مرض التوحد.
الميسوفونيا مرض عقلي واضطراب نفسي جديد
حتى الآن لم يتوصل العلماء لسبب حدوث الميسوفونيا بشكلٍ كاملٍ، إلا أنّهم يعتقدون أنّها تنتُج عن الطريقة التي تُعالج بها أدمغة بعض الأشخاص أصواتًا معينة، وكيفية تفاعلها معًا.
في دراسة جديدة نُشرت في السابع عشر من مايو 2019 في Scientific Reports بدورية Nature، قام دينيس وزملاؤه بمُراقبة رُدود أفعال 21 شخصًا مُصابًا بالميسوفونيا و 23 آخرين أصحاء، أثناء مُشاهدتهم مجموعة مِن الفيديوهات التي تحتوي على مقاطع صوتية مُحفزة؛ سواء كانت أصواتًا طبيعية أو أصواتًا مُفتعلة.
لاحظ فريق البحث أنّ الأشخاص الذين يُعانون مِن الميسوفونيا استجابوا لتلك الأصوات بطرق مختلفة عن الآخرين. فعند سماعهم لتلك الأصوات، انتابهم شعور مِن عدم الارتياح والغضب والاشمئزاز. كما ارتفعت مُعدلات ضربات القلب لديهم. وعند فحص أدمغتهم بأشعة الرنين المغناطيسي – MRI، أظهرت الفحوصات استجابة عالية ونشاطًا زائدًا عن الطبيعي بالشبكة البارزة في الدماغ – Salience Network، وهي مجموعة من المناطق -بالقشرة المخية- تُساهم في عملية الإدراك وتُوجه انتباهنا إلى أشياء ملحوظة في محيطنا.
وأكدّت هذه الدراسة نتائج دراسة سابقة نُشرت في فبراير 2017، كانت قد أظهرت أنّ الأصوات المُحفزة تَسببَت في استجابات -مبالغ فيها إلى حدٍ كبيرٍ- في القشرة الجذرية الأمامية – Anterior Insular Cortex، وهي جزء من الدماغ مسؤول عن مُعالجة العواطف. وأظهرت أنّ الروابط والاتصال العصبي بين مناطق المخ تلك تكون أقوى عند الأشخاص الذين يُعانون من الميسوفونيا مقارنةً بغيرهم. كما أنّها تحتوي على مستوى ميالين أعلى من الشخص العادي.
وقد دفعت تلك النتائج العلماء إلى أنَّ الميسوفونيا قد تكون ناتجة عن تفاوت في عمل المحاور والسيالات العصبية بالدماغ. مما أدى إلى تفاوت استجابة المصابين وإدراكهم لأصوات معينة -تبدو عادية لغيرهم- وردود أفعالهم المتفاوتة من قلقٍ وضيقٍ شديدٍ إلى غضبٍ وهياجٍ، والتعامل معها كتعامل الأشخاص الطبيعيين مع صوت زئير أسدٍ على سبيل المثال.
ماذا عن طنين الأذن !
يتم تعريف طنين الأذن – Tinnitus، على أنّه صوت الضجيج الذي يسمعه الإنسان ويكون مصدره الأذن نفسها وليس الوسط المحيط، أي في غياب المؤثر الخارجي، على عكس الميسوفونيا. يُعد طنين الأذن عَرضًا لمشاكل أُخرى وليس مشكلة بحد ذاتها، مثل فُقدان السمع المرتبط بالعمر أو إصابة العصب السمعيّ أو اضطراب في الدورة الدموية. ويُعد من الحالات الشائعة جدًا؛ حيث يُؤثر على حوالي من 15% إلى 20% من الأشخاص، ومن هذا التعريف وُجد الاختلاف.
في يونيو 2013 نُشرت دراسة بدورية Frontiers، اشتملت على تجربتين علميتين. أوضحت
التجربة الأولى أنَّ الأصوات الناتجة من الوسط المحيط أو يُصدرها الآخرون تُسبب إزعاجًا لمرضى الميسوفونيا بينما لا ينزعجون من الأصوات الصادرة منهم. وفي
التجربة الثانية أكدّت أنَّ الميسوفونيا ما هي إلا حالة مُزمنة ناتجة عن مؤثرات ذاتية مستقلة، وأنّ المؤثرات السمعية تكون أكثر كُرهًا من المؤثرات البصرية.
مُساهمات نحو العلاج
حتى الآن لا يوجد علاج دوائي خاص بمرض الميسوفونيا يا رفاق. لكن رُبما تنجح أدوية القلق ومضادات الاكتئاب في التخفيف فقط من الأعراض المصاحبة لها.
يلجأ الأطباء حاليًا إلى العلاج بالجلسات النفسية، والتي أظهرت نتائج إيجابية واعدة. حيث يُساعد الأطباء المرضى على تعلم إدارة أعراضهم أثناء تعرضهم لإثارة الأصوات، وكيفية السيطرة على غضبهم من خلال تقنيات الإلهاء أو الاسترخاء. وتشمل طرق العلاج: TRT) Tinnitus Retraining Therapy) المُستخدم في علاج طنين الأذن، وأيضًا العلاج المعرفي السلوكي – Cognitive Behavioral.
وفي الآونة الأخيرة ظهرت بعض المُبادرات التي عملت على مُساندة ودعم حالات الميسوفونيا حول العالم، وشجعت على إجراء المزيد من الأبحاث لفهم ماهية الميسوفونيا وكيفية علاجها. كان على رأس هذه المبادرات الموقع البريطاني MISOPHONIA UK، وموقع Misophonia Association، مما عمل على زيادة الوعي ونشر المعرفة حول هذا الاضطراب.
أنتَ الآن عزيزي القارئ أمام خيارين: إما أنْ تقوم بفهم واستيعاب الحالة للتخفيف مِن حدّتها والتعامل معها، وإما أنْ تَتطور ردود الأفعال من الغضب حتى الميل نحو العزلة والاكتئاب، الأمر الذي سيَزيد الحالة سُوءًا.
مي رفعت - أراجيك